شهد العالم عقب الحرب العالمية الثانية أنواعاً من العولمات، لكل منها ميزته، وقد فرض بعضها نفسه منفرداً، والتفّ بعضها في تحالفات قوة جديدة، تبحث عن مميزاتها الفردية أو الجماعية، فعقب الحرب العالمية الثانية وتصفية الاستعمار التقليدي، بدأ العالم يتمايز إلى كتلتين كبيرتين، وكان التمايز أو الانقسام الثنائي واضحاً، بين كتلة شرقية وأخرى غربية، بموازاة الانقسام الأيديولوجي المعروف بين اليسار الاشتراكي واليمين الرأسمالي الليبرالي.
وكان لافتاً للنظر، أن ثمة كتل تحاول توحيد السلطة العالمية في إطار وحدها، وإن تعددت أطرافها، مثلما كان حال «الكتلة الشرقية» التي قامت على الأيديولوجية شبه الموحدة، رغم تصارع الاتحاد السوفييتي والصين الشعبية، وكذلك كان حلف شمال الأطلسي الذي بدأ متعدد الأطراف، وإن كان في الواقع يحكمه جهاز عسكري موحد شديد المراس من بروكسيل.
في تلك الحقبة، بدا العالم منقسماً بحدّة بين كتلتين، تحاول كل منهما السيطرة على مجموعة دول تحمل خصائص ومميزات مشتركة.
ولسنا بحاجة للتعريف هنا بهذه الكتلة أو تلك، لكنا سنشير فقط إلى ما تميزت به كل كتلة، سواء عقب الحرب مباشرة أو بعد ما جرت به مقادير عدد من الدول الكبرى والصغرى، إذ سرعان ما بلورت كل مجموعة نفسها من دول حاولت التكتل على طريقتها الخاصة، وإن حاول البعض البقاء بعيداً عن التبعية للتقسيم الثنائي المألوف في حينه، لذلك وُجدت مجموعات تنتمي إلى تشكيلات راغبة في التمايز لإنجاز استقلال وطني حقيقي، وبذلت جهداً لتحقيق ذلك في شكل مسميات حول الاستقلال بدءاً من التحرر الوطني، إلى الحياد الإيجابي وعدم الانحياز، وأبرزت هذه المحاولات بالفعل مجموعة من الدول حملت مقولات الاستقلال رغم مناورات الدول الكبرى، أو ما عُرف بدول «الاستعمار الجديد». واستطاعت بعض هذه الجهود أن تشكل أنماطاً فرضت نفسها أمام تحديات كثيرة، ما جانب دول ما عرف باسم «الرأسمالية الوحشية» و«الاشتراكية الاستبدادية الشمولية».
لكن مجموعة متناثرة في أنحاء القارات الناهضة، أو ما يعرف باسم العالم النامي، بعثت الروح في أشكال جديدة، واستطاعت أن تقدم أنماطاً أخرى للتنمية وبناء الدول، سواء في أفريقيا أو المناطق التي بنت تنوعها الخاص.
وليست ببعيدة عنا، تلك النماذج التي قدمتها دول مثل الهند وباقي بلدان التحرر الوطني في أفريقيا وأميركا الجنوبية وغيرها.
وقد منحت تجارب هذه الدول طابعاً خاصاً للمجموعة التي نشير إليها، إذ نشرت طابعها في أكثر من قارة وجعلت الاستقلال الوطني شعاراً للفخر بين عدد يتزايد تنوعه الآن، رغم الانتكاسات السياسية والاقتصادية التي أخذت أشكالاً مختلفة في كثير من هذه الدول.
وتؤثر كتل أخرى على أعضائها تأثيرات لافتة، نتيجة اعتبارات مادية وتاريخية، ولا يمكن إنكار أهمية هذه الكتل في سياقيها الإقليمي، ولنتأمل مناطق وتكتلات في الخليج وجنوب شرق آسيا وغرب أفريقيا وجنوبها.. وهي تكتلات باتت تحتل مكانتها في العالم، وتخلق نماذجها السياسية والاجتماعية والاقتصادية المميزة في إطار العولمة الجديدة.
وبالفعل، أصبح هناك ما يسمى العولمة الثانية والثالثة، نتيجة للانتشار الواسع للمسميات في أنحاء مختلفة من العالم، ولا يكتفي أحد الآن بصيغة هيمنة واحدة، إذ تجر أشكال التأثير بعضها بعضاً إلى ما نعتبره عولمات جديدة.
كانت عولمات ما بعد الحرب العالمية الثانية تجعل من بعض الزعماء أو البلدان رموزاً للتكتل: مثل تكتل «الدار البيضاء» أو تكتل «مونروفيا» أو تكتل «الجنوب الأفريقي».. لكننا أصبحنا أمام رموز منفردة تنشغل بنفسها، وتشكل كلٌ بمفردها تكتلاً ذا طابع خاص.
ولعل التقنية الحديثة وما تحققه من روابط، هي التي باتت تشكل العوالم الجديدة، وتستدعي أشكالاً معينة من عوالم مختلفة، ما يجعل أنواع التقنيات السائدة مساعدةً على تشكل كتل أساسها الصيغ التقنية العالمية المتنوعة، ويصعب عندئذ الحديث عن عولمة معينة.
إن ما تلعبه التقنية الحديثة من أدوار قد ألغى أنماط التصنيفات التقليدية، ودفع العالم إلى أن يشكل لنفسه صيغاً خاصة، لذلك يصعب علينا ترك التقنية العالمية لتسمي نفسها، وأصبح مسمى «الدولي» و«العالمي» فرصة للقوى الكبرى، لتمرير نمط السيطرة الذي تريده.

*مدير مركز البحوث العربية والأفريقية -القاهرة