يعتقد ملايين المهجرين إلى إدلب، فضلاً عن أهلها، أن هذه المحافظة باتت رهينة حل سياسي غير واضح المعالم، وأن التدخل العسكري التركي الذي واكبه اتفاق روسي تركي (في موسكو) على وقف إطلاق النار، لم يقدم حلاً للقضية السورية، وإنما هو مجرد تأجيل للعلاج النهائي، ومع أن إطلاق النار بعد إعلان الاتفاق لم يتوقف سوى ربع ساعة فقط، حيث بدأ اختراقه وتعطيل مساره، إلا أن هناك تفاؤلاً بأن يلتزم به جميع أطراف الصراع، على الرغم من رفض مجلس الأمن لتفاصيل الاتفاقية، وبخاصة ما يتعلق بحدود سوتشي، التي بقيت غائمة ومتراوحة بين حدود الوضع الراهن (كما فهمها الروسي)، وبين حدود اتفاقية سوتشي الأصل (كما فهمها التركي)، وبدا لي أن اتفاقية موسكو جاءت حلاً للخلاف الروسي التركي، ومخرجاً لإنهاء الاجتماع العسير بين بوتين وأردوغان، وليست حلاً لقضية إدلب وملايين السكان فيها، وهم ما يزالون مشردين على الحدود، يتابعون نشرات الأخبار، وينتظرون حلاً بات أقرب إلى الوهم منه إلى الحقيقة.
تراكمت الفاجعة حين فتحت تركيا للسوريين النازحين إليها بوابة النزوح إلى أوروبا عبر اليونان، فتدفقت عشرات الآلاف لتواجههم محنة جديدة، حين رفضت اليونان السماح لهم باجتياز حدودها إلى أوروبا، التي بدت قلقة من احتمال مواجهة هجرة جديدة، قد تصل أعداد المهاجرين خلالها إلى بضع ملايين في أقل تقدير، ولو أن تركيا تفتح حدودها لمزيد من المهاجرين السوريين من الداخل السوري لفرغت سوريا، أو كادت تفرغ من سكانها (موالين ومعارضين)، نظراً لما يعانيه الداخل السوري من شظف العيش، ومن الوضع الاقتصادي الصعب، ومن فقدان الأمن والاستقرار.
ولم يحدث في الداخل السوري ما يفتح آفاقاً أمام النازحين والمهاجرين نحو مسار العودة، وها نحن على بوابة السنة العاشرة من المأساة السورية الكبرى، دون أن يستجد خطاب يوحي بأن أحداً ما قد استفاد من الدرس على مدى سنوات الجحيم، فكل أطراف الصراع متمترسون في خنادقهم، ومع أن كل قادة العالم تقريباً يؤكدون من سنين، أن الحل النهائي للقضية السورية سياسي محض ولن يكون عسكرياً، لكن الجميع أهملوا الحل السياسي، وها هو ذا القرار 2254 يدخل عامه الخامس دون أن يتفاعل معه أحد، وأخشى أن يكون مصيره ذات مصير القرار 242 لعام 1967، الذي تحول إلى متحف التاريخ السياسي.
لقد كان الاتفاق الروسي التركي مهماً في حالة واحدة، هي تجميد الصراع التركي الروسي المستتر، وقد خبأ الجذوة السورية الملتهبة تحت رماد الصبر وعبر ستارة الدبلوماسية الداكنة، وقد تذكرنا إدلب بقضية سراييفو، التي انطلقت منها الرصاصة الأولى في الحرب العالمية الأولى، وهي اليوم كرة تتقاذفها أقدام اللاعبين في مسرح الصراع الدولي، بعضهم يريدها أن تصير غزة جديدة (دون منفذ بحري) يحكمها إسلاميون متشددون، يحلمون بإمارة تستلهم القرون الوسطى، ويطبق عليها حصار يجعل سكانها يكرهون أنفسهم، وهذا ما سيشجع محافظات أخرى على المطالبة باستقلال إقليمي، كما في الشمال الشرقي السوري، وربما في الساحل أيضاً، وقد تليه مطالبات باستقلال الجنوب، وهكذا تضيع سوريا وتمحي من خريطة العالم، ومع قناعتي بأن هذا محال، إلا أن هناك من يحلم بأن تكون له دولة مستقلة داخل الدولة السورية، وقد وجد في حالة الضعف والانهاك السوري فرصته ليجأر بصوته.
لقد بات وضع السوريين أشد تعقيداً، بعد أن هاجر أكثر من نصف الشعب، فحتى الحل الديمقراطي واللجوء إلى صناديق الاقتراع، لم يعد مجدياً في غياب نحو أربعة عشر مليون مواطن توزعوا في أصقاع الأرض، وهم على الغالب من الشريحة السكانية التي كانت الكبرى، كذلك كان فشل اللجنة الدستورية التي ولدت ميتة قد أضاف إلى العسر عسراً، وأما مفاوضات جنيف فهي عملياً لم تبدأ قط بمناقشة الملف الأهم وهو الانتقال السياسي، ففي كل الجولات السابقة كان الحديث يدور حول القضايا (فوق التفاوضية)، والمفارقة أن مسار آستانة وُجد لمناقشة ما فوق التفاوض مثل (وقف إطلاق النار وإطلاق سراح المعتقلين وإنهاء الحصار)، كي يتفرغ المتفاوضون في جنيف لملف الانتقال السياسي، وهو عقدة الحل التي لا بد لها من أن تحل.