لعل جوهر المشكلة في موضوع التطوير والإصلاح والاستعانة بالكفاءات، والذي أصبح موضوعاً مثاراً في الخطاب الإداري والاقتصادي والإعلامي والسياسي في كثير من الدول العربية، هو أن التعامل في هذا الصدد كان جزئياً وسطحياً إلى حدٍ كبير، مما أدى إلى تهميش المسألة الجوهرية التي يبتغيها كل إصلاح وتطوير.
وقد تجاهلت الكثير من التجارب الإصلاحية أهمية الكفاءات ولم تراعِ متغيرات الواقع الاقتصادي والاجتماعي، ولم تضع استراتيجية فيما يتعلق بالتباينات الطبيعية والفوارق الاجتماعية والاقتصادية بين فئات المجتمع وجماعاته الطبقية والمهنية والعمرية.
وعلاوة على الآثار السلبية لسياسات الخصخصة في كثير من الدول النامية، والتي تم تنفيذها في بعض الحالات على نحو أفاد أقلية من الخصوصيين ورجال الأعمال، وعمّق الفوارق وفاقم مشكلة البطالة التي تعانيها هذه الدول أصلاً.. فإن الكثير من السياسات التنموية في البلاد العربية فشلت هي الأخرى في إيجاد برامج تنموية صحيحة ذات أثر إيجابي في تحسين نوعية حياة الإنسان العربي ومستواه المعيشي، الأمر الذي أوجد نوعاً من «الإعاقة التنموية»، خاصة في ظل عدم القدرة على الاستفادة من الكفاءات والعقول العربية وتوظيفها للنهوض بالواقع في بلدانها.. لذا كانت الكلفة الاجتماعية والاقتصادية والأمنية كبيرة للغاية. وربما لهذا السبب أخذت النخب في العديد من البلاد العربية تهاجر إلى الخارج، وتعزف عن المشاركة في صناعة القرار الداخلي، الرامي لمعالجة اختلالات واقع بلدانها.
العالم العربي بحاجة اليوم إلى الاستفادة من تجارب غيره، ولديه مشكلات كثيرة ترجع بالأساس إلى نمط الإدارة، وإلى وجود أخطاء في السياسات العامة يتعين إصلاحها، وكثير من مجتمعاته بحاجة الآن إلى أفكار جديدة وإلى إيجاد مخارج وحلول عملية لأزماتها الاقتصادية والاجتماعية، وإلى وجود نخب إدارية واقتصادية وإعلامية وثقافية تتعامل بموضوعية وإخلاص مع الأزمات التي تنهك المجتمعات الوطنية. ولن يحدث ذلك ما لم تبدأ هذه النخب في التحدث بشفافية عن قضايا مجتمعاتها، وتسعى لاكتساب وعي جديد في معالجة هذه القضايا.
لذلك يتعين، عربياً، استحداث توجهات إيجابية في التنمية الاقتصادية والاجتماعية، تعكس تفكيراً عقلانياً حول كيفية الخروج من المشكلات والأزمات المجتمعية بأقل الخسائر الممكنة.. وذلك بالاعتماد على الكفاءات الوطنية الصادقة، ووضعها في مواقع تناسب قدراتها المهنية والفكرية؛ فكل الدول التي حققت التطور والتقدم إنما فعلت ذلك بجعل الإنسان فيها محور التطور والنهوض.
وقبل ذلك، لابد أن يؤمن الإنسان العربي بأهمية العلم والتطوير في الوصول إلى استراتيجية لإنعاش الطاقات وشحذ الهمم، عبر مزيد من التأكيد على حقوق الإنسان وكرامته.
وفي هذا الخصوص، فإن النخب العربية مطالبة بالابتعاد عن الاستغراق في التنظير المجرد، كي يتسنى لها أن تدخل، دون تأخير كبير، في تطبيق أفكار التطوير والإصلاح التنموي، وأن تنطلق في اعتماد استراتيجية جديدة ودعم مجتمعي ينبعان من وعي الناس بالواقع وبأهمية تطويره وتحديثه.