«نهاية الزعامة الأميركية» عنوان جديد نوهت عنه مؤسسة الفكر العربي قبل أيام. وهو عنوان كتابها السنوي الجديد لعام 2019 «أوضاع العالم». ويهدف هذا الكتاب إلى إلقاء أضواء على رؤى وأفكار جديدة حول أهم التطورات الكبرى في عالمنا في كل عام. عنوان كتاب 2019 مثير للتأمل، ومستفز للعقل في الوقت نفسه، والتنويه المنشور عنه يُضفي عليه إثارة إضافية، إذ صيغ بطريقة تُلخص رسالته بوضوح. فوفقاً لهذا التنويه، باتت الولايات المتحدة «قيد التهالك والاستنفاد». وهذا حكم قيمي، وقد يعبر عن تفكير رغبوي أكثر ?منه ?علمي، ?بخلاف ?ما ?عرفناه ?عن ?المشرفين ?على ?الكتاب ?برتدان ?بادي ?ودومينيك ?فيدال، ?وهما ?أستاذان ?فرنسيان ?كبيران ?معروفان ?بحرصهما ?على ?التدقيق ?والتوثيق.
كما يفيد محتوى التنويه بأن الولايات المتحدة تقهقرت فعلاً، وليست في حال تقهقر فقط، وأن المجال الوحيد الذي لا تتقهقر فيه هو اللغة والثقافة والعلم. وهنا، لابد أن نسأل كيف فات عالمين كبيرين مثل بادي وفيدال أن الثقافة والعلم هما الطريق إلى التقدم والمحافظ عليه، في عصر صارت المعرفة هي المصدر الأول للثروة والقوة.
لكن هذه ليست المرة الأولى التي يبدو فيها للبعض، وبينهم علماء كبار، أن الولايات المتحدة تتقهقر، وتفقد مكانها في العالم. خذ، مثلاً، المؤرخ الكبير بول كيندي الذي أثار كتابه «صعود القوى العظمى وسقوطها» الصادر عام 1988 ضجة وجدلاً واسعين، لأنه توقع انحسار قوة «الإمبراطورية الأميركية»، بل تنبأ ببداية هذا الانحسار عام 2010 تحديداً.
والملاحظ أن الباحثين والعلماء الذين طرحوا رؤى تشاؤمية بشأن مستقبل الولايات المتحدة، خلال العقود الأخيرة، جمعهم اعتقاد في أنها ستلقى مصيراً سبقتها إلى مثله الإمبراطوريات الكبرى عبر التاريخ. ولذا، ربما كان الولع بإدراج الولايات المتحدة ضمن هذه الإمبراطوريات وراء توقع نهاية مماثلة لها، دون التفكير في مدى سلامة هذا المنهج.
لكن الولايات المتحدة لم تكن إمبراطورية بالمعنى التقليدي في أي وقت، ولا تشبه في شيء إمبراطوريات العصور القديمة الرومانية والفارسية وغيرهما، ولا إمبراطوريات عصر التوسع الاستعماري التي كانت بريطانيا أكبرها. انتهى عصر الإمبراطوريات، قبل أن تبدأ أميركا في الاهتمام بدعم نفوذها في العالم، والسعي إلى التربع على قمة النظام الدولي. وقد بدأ هذا التطور خلال الحرب العالمية الثانية التي خرجت الولايات المتحدة منها قوةً عظمى في نظام عالمي ثنائي القطبية نافسها فيه الاتحادُ السوفييتي السابق، الذي لم يكن بدوره إمبراطوريةً بالمعنى التقليدي.
لكن الأهم من ذلك أن صعود قوى دولية جديدة تُزاحم الولايات المتحدة في قمة العالم ليس مؤشراً كافياً إلى أنها تتقهقر. فقد زاحمها الاتحاد السوفييتي من قبل، دون أن يؤدي ذلك إلى تقهقرها. كما أن الصراع بينهما لم يكن محتماً أن ينتهي بتفكك هذا الاتحاد الذي تعود نهايته المفجعة إلى اختلالات في بنائه، وفي سياسات تصور صانعوها أنها تحقق التفوق على الولايات المتحدة لأن دولاً كثيرة فيما كان يُسمى «العالم الثالث» اقتدت بها.
ومن الشواهد الدالة على اختلاف عالمنا الراهن عن عصور سبقته، وجود متسع لقوى دولية عدة. فلم يعد سقوط إحداها ضرورياً لكي تصعد أخرى. كما قلّت، بل ندرت، الصراعات الصفرية التي لا تنتهي إلا بسقوط هذه القوة الدولية أو تلك، ولم يعد لها مكان في التفاعلات الصراعية الكبيرة. وفضلاً عن هذا كله، لا يوجد مؤشر موثوق على تناقص ملموس ومستمر في أي من مصادر القوة الأميركية، حين نفكر بمنهج تعددي وليس أحادياً. وفضلاً عن تنامي قدرات الولايات المتحدة الاقتصادية المعتمدة على تكنولوجيا فائقة التقدم، رغم تراجع نصيبها في الناتج العالمي الإجمالي من الرُبع عام 1950 إلى السُبع الآن، وكذلك تعاظم قدراتها العسكرية، نلاحظ أن مصادر قوتها الشاملة تزداد ولا تقل. ولعل آخر ما أُضيف إليها الاقتراب من الاكتفاء الذاتي في الطاقة، وتراجع الاعتماد على النفط المستورد، بعكس الصين التي يعتقد كثيرون أنها تصعد على حساب الولايات المتحدة، ويتصور بعضهم أنها ستصبح القوة العالمية الأولى في غضون سنوات، وهو ما لا يوجد دليل عليه، ولا يعدو أن يكون افتراضاً يتعذر إثباته علمياً في الوقت الراهن على الأقل.
ولذا، نأمل أن يكون إصدار هذا الكتاب فرصة لنقاش موضوعي حول المعايير التي يجوز الاعتماد عليها علمياً ومنهجياً في قياس الازدياد أو التناقص في قوة الدول الكبرى.

*مدير مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية