كنت أُقرّب لطلبتي في الجامعة قواعد حقوق الإنسان والحريات العامة عبر التاريخ، وتوقفت معهم ملياً عند جوانب التصويت والانتخابات في الدول الأوروبية العريقة، وعلى رأسها فرنسا، وكم كانت دهشتهم كبيرة عندما قلت لهم إنه في باريس، عاصمة الأنوار وحقوق الإنسان، كان يمنع على المرأة حق التصويت إلى نهاية الحرب العالمية الثانية. ففي أبريل 1944، قامت زوجة الجنرال ديغول بارتداء معطفها الأسود وقبعتها السوداء وذهبت لتضع ورقتها في صندوق الاقتراع، أمام كاميرات الصحافة، مدشنةً حق المرأة الفرنسية في التصويت. ورغم أن النساء ناضلن طويلاً من أجل انتزاع ذلك الحق، فإن نسبة مشاركتهن كانت قليلة، كما أن نسبة تمثيلهن في مجلس الشيوخ لم تكن تتعدى 3.
لقد رفعت الفرنسيات الصوت للمطالبة بحق الانتخاب منذ عام 1880، أسوةً بالإنجليزيات والأميركيات اللائي نلن ذلك الحق. لكن فرنسا كانت تريد استعادة الحياة الديمقراطية قبل أي شيء آخر. وتعتبر مؤرخات الحركة النسوية في فرنسا أن ديغول لم يكن بمفرده صاحب الفضل في حصول المرأة على حق التصويت. فقد نوقش الأمر قبل ذلك في الحكومات السابقة، لكن أعضاء مجلس الشيوخ وأنصار الحزب الراديكالي كانوا يرفضون ذلك. والسبب خشيتهم من أن يتحول التصويت النسائي إلى مجرد نسخة من تصويت أزواجهن وآبائهن. لقد تخوف الساسة من هذه الكتلة النسائية التي تشكل نصف الأصوات.
أكتب هذا الكلام ونحن نرى اليوم باريس بصيغة المؤنث، إذ تخوض ثلاث شخصيات نسوية غمار الانتخابات التي لا يفصلنا عنها سوى أقل من أسبوعين، بهدف الفوز برئاسة بلدية باريس العريقة، وهن العمدة الحالية «آن هيدالغو» التي شارفت عهدتها الحالية على الانتهاء، و«أنييس بوزان» وزيرة الصحة السابقة التي تسلمت بصفة طارئة المشعل من «بنجامن غريفو»، مرشح حزب «الجمهورية إلى الأمام» الحاكم، والذي انسحب من السباق الانتخابي في بداية فبراير الماضي. فضلاً عن «رشيدة داتي»، وزيرة العدل السابقة خلال عهدة الرئيس نيكولا ساركوزي (2007-2012) والتي تشغل حالياً منصب عمدة الدائرة السابعة بباريس.
وهذه هي المرة الأولى التي تشهد فيها العاصمة الفرنسية «صراعاً» نسوياً ثلاثياً. ورغم اختلاف البرامج والتوجهات الأيديولوجية لهؤلاء النسوة الثلاث، فإن الحدث مهم ويتطلب التابعة.
ومما يزيد هذه المنافسة الانتخابية تشويقاً، تقارب النتائج المتوقعة للدورة الأولى بين المرشحات الثلاث، حسب استطلاع للرأي نشره معهد «إيلاب وبيرجيه لفرو» مؤخراً. هذا الاستطلاع أظهر تقدم رشيدة داتي ذات الأصول المغربية والمدعومة من حزب «الجمهوريون» المعارض ب25 من الأصوات، تليها هيدالغو بنسبة 24. بينما تأتي بوزان في المرتبة الثالثة بنسبة 18,5 من الأصوات.
ليست باريس مدينة عادية، لا من حيث عدد سكانها ولا من حيث تاريخها ولا من حيث موقعها كعاصمة أوروبية وعالمية.. ومن ثم فبعض الاختيارات التي تطرحها بعض المرشحات تلقى اهتماماً مباشراً من طرف الناخبين الباريسيين وعلى رأس ذلك مسائل البيئة. لقد أظهرت دراسةٌ أن التلوث الناجم عن الجزئيات الدقيقة مسؤول عن وفاة 48 ألف شخص سنوياً في فرنسا، ما يجعله ثالث سبب للوفيات التي يمكن تداركها بعد التدخين وتناول الكحول. والوفيات الناجمة عن هذا التلوث المرتبط بالنشاط البشري، من نقل وصناعة وتدفئة بواسطة موارد الطاقة الأحفورية والزراعة.. تشكل 9% من الوفيات في فرنسا التي يبلغ عدد سكانها 62 مليون نسمة، وفق دراسة لهيئة الصحة العامة الفرنسية. لذا نرى في وسائل الإعلام الفرنسية آراء مختلفة للباريسيين بشأن حصيلة هيدالغو على رأس بلدية باريس. فثمة من يشيد بخياراتها البيئية وبمشاريعها الهادفة إلى تقليص نسبة التلوث الذي تعانيه العاصمة منذ سنين، في حين ينتقد آخرون إجراءاتها ويروا أنها تعرقل استخدامهم للسيارات داخل باريس وأنها تسببت في رفع أسعار مواقف السيارات في الشارع، فضلاً عن مشاريع أخرى استهلكت أموالاً باهظة، على غرار إعادة تأهيل بعض ساحات العاصمة.
لم تشهد فرنسا في تاريخها صراعاً بصيغة المؤنث بهذا الحجم، ويبدو أن مسألة «المساواة» بين الجنسين هي في تطور تاريخي دائم.