يقوم العمران البدوي على نظام المجتمع القبلي. وقسمة الناس إلى بدو وحضر، قسمة طبيعية مثل قسمة السكان إلى أهل الجبال وأهل الوديان، أهل الصحراء وأهل الأنهار. والحضر نفسه نشأ من البدو، وذلك بعد انتقال السكان الرحل إلى الاستيطان، والرعاة إلى سكان مدن. لقد تأسست المدن من الهجرات والغزوات، لذلك فالحضر تطور طبيعي للبدو، والبداة أهل الحضارة الأصليين. والبداوة طبيعة، والحضارة عمران؛ الأولى من فعل الطبيعة، والثانية من فعل البشر. وقد لا تختفي العصبية من الأمصار إذا كان سكانها نازحين من البدو إليها. وتقسيم المجتمعات إلى بدو وحضر قسمة تقليدية قديمة؛ أصلها علماء الاجتماع المحدثون في تقسيمهم المجتمعات إلى ريف وحضر، وهي ثنائية مصطنعة. ففي العصر الحديث، وبعد انتشار وسائل الاتصال وطرق المواصلات واتساع الانفتاح، تداخل سكان الأقاليم. فالبدو في الحضر عن طريق الهجرة الداخلية، والحضر في البدو عن طريق الجهاز الإداري الرسمي (قوات الأمن والشرطة وفرق الجيش وموظفو الإدارة والأطقم الصحية والتعليمية).
وقد يكون العمران الحضري مستورداً في الأطراف ومناطق البدو. وكثيراً ما يتجاور العمرانان البدوي والحضري؛ الخيمة والفيلا، الجمل والعربة، الديوانية والفندق، الناقة وجهاز الهاتف الخلوي.. وقد تنتقل العقلية البدوية داخل الحضر، فيعيش البدوي حياة البداوة في المدينة كأسلوب معيشة، وكنمط حياة يومي، رغم كل ما يتمتع به من مظاهر الحياة الحديثة.
وقد تكون هناك سمات طبيعية للبداوة وأخرى مغايرة للحضارة، وهو ما يسمى الآن «أخلاق البيئة». فهل هي سمات ثابتة أم متغيرة؟ طبيعية أم مكتسبة يحملها البدو حتى إذا ما تحولوا إلى الحضر، ويحملها معهم أهل الحضر حتى لو عادوا إلى البداوة؟ وهل هي سمات تنطبق على المجموع بكل أفراده، أم أن هناك فروقاً فردية داخل ذلك المجموع؟ قد يكون البدو أقرب إلى الخير من الحضر، وربما يكونون أقرب كذلك إلى الشجاعة من أهل الحضر أيضاً. ومع ذلك يقوم أهل الحضر بمقاومة العدو المحتل بأفعال بطولية خارقة للعادة، كما حدث ويحدث في فلسطين. وقد يكون للأحكام السلطانية والخوف من مخالفتها وضرورة طاعتها، تأثيره على أهل الحضر والحد من شوكتهم. بيد أن لأهل المدن وسائل تعبير مختلفة، تمارسها النقابات المهنية والاتحادات والجمعيات ومنظمات المجتمع المدني. ليس البدو أقدر على التغلب من أهل الحضر. فقد يُهزم البدو وينتصر الحضر كما تَهزم الدبابةُ والطائرةُ السيفَ والرمحَ. وقد ينعم البدو بمظاهر الحضارة المستوردة، وقد يعيش بعض أهل الحضر عيشة التقشف والزهد على غرار أهل البدو. وإذا كان العرب رمزاً للبداوة فقد استطاعوا في هذا العصر التعامل مع أكثر الوسائل التقنية تعقيداً، كما نجحوا في بناء الدول وامتلاك أسباب القوة بما فيها الطاقة النووية، وهم بناة المدن ومشيدو العمارة الحديثة، والعواصم العربية ومعالمها العصرية خير شاهد على ذلك. قد يحتاج العرب في نهضتهم إلى صبغة دينية، وهو الجانب الأيديولوجي في كل نهضة. وسيظل العرب أصحاب رسالة وحاملي أمانة، وليسوا مجرد تجار.

*أستاذ الفلسفة -جامعة القاهرة