تُبعدنا النزعة الأخلاقية عن تقييم كل شيء يأتيه الإنسان أو يعتقد فيه أو يؤمن به، ويسعى إليه تقييما مادياً بحتاً، فنقدره بالمال أو النقود، وقد نعطيه رقما، أو نفتح له حسابا في البنك لو من الناحية الافتراضية، أو نفعل ذلك في الواقع ونجلس لنحصي الرصيد الذي يتراكم في هذا الحساب بمرور الأيام، وتوالي كل ما يبديه البشر من مشاعر وتصورات وتصرفات.
لكن الاتجاهات الواقعية بدأت منذ زمن تأخذنا على هذا الدرب وتبرهن بالتتابع على علمية مسلكها، وصدقية مأربها، وأهمية ما تذهب إليه في تعزيز حركة الحياة، وصناعة التقدم، والمفاضلة بين المواقف والتنظيمات والجماعات والمؤسسات والهيئات والأفراد، ولذا راح أنصارها يسهبون في وصف وتحليل ما يسمونه «رأس المال الثقافي» و«رأس المال اللغوي» و«رأس المال الديني» و«رأس المال الاجتماعي».
وقد بدأت هذه التوجهات مستهجنة ثم رسخت وجودها وتداخلت في اقترابات العلم وأدواته ومنهاجه الساعية بلا هوادة لفهم الظواهر الإنسانية المعقدة. وكان هذا في الغرب أقدم من الشرق. ولعل ذلك يعزى إلى أن الشرقيين، الذين لا يمكن أن يتم فهمهم على الوجه الدقيق والأكمل في ظل إبعاد التدين وحمولاته تماما، ينظرون إلى الاقتصاد بوصفه خادما، والإنسان هو المخدوم. ذلك ما يؤكد عليه الإسلام، وتنادي به المسيحية، في جوهرهما. أما في الرأسمالية الغربية فإن الاقتصاد مخدوم والإنسان خادمه، ومعيار النجاح والفشل يقاس بتراكم الأرباح ووفرتها.
إن الأبعاد الفلسفية والأخلاقية، التي تأتي بعد الاعتقادات والعبادات، يمكن أن تشكل الأرضية التي تمتشق فوقها أعمدة الأقوال والأفعال الإنسانية، وقد تكون السقف التي تنتهي عنده، أو هي الإطار التي تحال إليه وتستند عليه. لكن العلم عليه أن يفتح قلب الظواهر دون حرج ولا خشية يقلبها كيفما شاء ويدرس عناصرها من دون تردد، حتى يقف على الأمور كما تجري في الواقع بلا رتوش ولا تضليل. وبعدها فإن الإنسان مخير في أن يقيس هذه النتائج على ما يؤمن به من معتقد، وما يستقر في ضميره من قيمة، ليقبل أو يرفض، يمدح أو يقدح. والعبرة في هذا كلية هو المدخل الذي نمر فيه ونقترب به، والهدف الذي نبتغيه مما نصل إليه من العلم الذي حزناه أو حصلناه.
معنى هذا أننا لا يجب أن نقلل من قيمة رأس المال الاجتماعي والأخلاقي في بناء الأمم، فضلا عن أهميته لكل فرد على حدة، بوصفه منتجا يتشكل من تفاعل مصادر عديدة، حكومية وغير حكومية، وتلعب الروابط الاجتماعية دورا في تكوينه، ولذا فإن الدول المتقدمة تسعى دوما إلى تعزيز الشراكة مع المجتمع في إنتاج وتعميق قيم الثقة والرضا والتضامن، وتحرص على إثراء وجود المؤسسات الأهلية المدنية، وولادة مؤسساتها من قلب المجتمع كي ترعى شؤون الناس وتحسن مجرى حياتهم، شرط أن تحوز المصداقية، وتتمتع بالديمومة، فالمُنبت لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى، وشرط أن تتسم ببساطة هياكلها الإدارية وارتباطها المباشر باحتياجات الواقع، وتفعيل آليات المشاركة بما يقود إلى رفع مستوى النزاهة العامة، وتعزيز الأسلوب التشاركي في الإدارة، ما يتطلب نشر الثقافة المدنية، وتطبيق مبادئ الحكم الرشيد في إدارة العمل الأهلي، وفي مطلعها المساءلة والشفافية وإعلاء الأخلاق، حسبما ينتهي د. سامح فوزي في كتابه المهم «القوة الخفية».
إن بناء النظم السياسية القوية يتطلب بناء المؤسسات الاجتماعية الوسيطة، التي تحمل الناس وتنظم طاقاتهم، وتحشد جهودهم، وتشكل حائط صد أمام تغول السلطة وتجبرها مع صعود اليمين المتشدد حتى في الغرب نفسه، أو تحويلها الديمقراطية إلى مسألة شكلية عابرة الإجراءات وسطحية القيم وفقدان نبل المقصد، فهذه الأبنية وما ينجم عنها من تصرفات وعلاقات وقيم هي القوة الخافية التي تسري في أوصال المجتمع، ولا يمكن نكرانها إلا من جاهل أو متنطع.