أكثر من الأزمة المالية - الاقتصادية عام 2008، وأكثر من سارس (من سلالة فيروس كورونا) وإنفلونزا الطيور أو حمى الضنك وايبولا والكوليرا والملاريا وغيرها من الأمراض والأوبئة التي عُرفت في العقود الأخيرة، استطاع فيروس كورونا أو ما بات يُعرف بـ «كوفيد 19» أن يثبت فعلاً أن العالم «قرية كونية»، وأن يُربك الاقتصادات والحكومات، وأن يضع التقدّم الطبي والعلمي وحتى التكنولوجي أمام تحدٍّ تصعب مواجهته بالسرعة اللازمة، ورغم أن منظمة الصحة العالمية التي ترصد خريطة الإصابات والوفيات وأعدادها، اكتفت بالتحذير من الخطر، ولم تقرّر إعلان وجود وباء عالمي، إلا أن توسّع الخريطة إلى نحو ستين دولة بات يقلقها، خصوصاً بالنسبة إلى الدول غير المجهّزة وغير القادرة على توفير متطلبات الاحتواء والوقاية.
بلغت الخسائر الاقتصادية الأوليّة تريليون دولار، وترفعها التقديرات إلى خمسة تريليونات، في ضوء توقّعات لا يُعرف مداها الزمني بعد، فليس هناك تصوّر شامل لطبيعة الفيروس وكيفية انحساره، صحيح أن الإجراءات في الصين سجّلت نتائج إيجابية، إلا أنه لا يزال من الصعب القياس عليها، فـ«المفاجآت» واردة كما تشير منظمة الصحة، مستندة إلى حالات إيران وكوريا الجنوبية وإيطاليا، وبالأخص إلى ظهور إصابات في مناطق لم يخالط أصحابها أشخاصاً قادمين من بلدان موبوءة، كان من الطبيعي أن يؤدي القلق والتحوّط إلى إلغاء الكثير من الفعاليات الدينية والرياضية والفنية والسياحية، كذلك الحدّ من الرحلات الجوية والنصح بالإقلال من التنقّل والاختلاط، ما ينعكس على الأنشطة الدولية والمحلية وحتى الفردية، لكن المؤكّد أن القدرة على تقليص العدوى وإنقاذ الأرواح لا تزال متوفّرة، فالمطلوب خروج الأداء الحكومي من دائرة الخوف، إلى اتخاذ الإجراءات وتأمين المتطلبات.
شكّلت الانعكاسات الاقتصادية مؤشّراً إلى ظواهر تغيير قسري ومفاجئ وداهم، طرأت على الحياة العامة، فما يحدث جعل كثيرين يقارنون بينه وبين النتائج التي تنذر بها الحروب الكبيرة أو تخلفها، فلا أحد يتخيّل مثلاً إلغاء صلاة الجمعة في المدن الإيرانية، أو وقفاً موقتاً لتأشيرات العمرة في مكة المكرمة، أو احتمال إلغاء الألعاب الأولمبية في اليابان، ومعارض صناعية هنا وهناك، أو انكماش في السياحة عموماً، أو تأجيل مناورات عسكرية مشتركة... إلا في حالات الحرب وليس بسبب وباء، لكن للظروف أحكامها وأسوأ الاحتمالات أن تتحول مصافحة بين شخصين سلاحاً قاتلاً، فالدول التي استبعدت أن يغزوها الفيروس، لأنه مركّز في منطقة صناعية صينية، اكتشفت أن انفتاح الصين وضخامة تجارتها العالمية يعنيان وجود أعداد كبيرة من الأجانب المقيمين والزائرين، ولذلك انتقلت تلك الدول من الحذر إلى القلق إلى الخوف فالهلع لدى ظهور الإصابة الأولى.
لم تخلُ أزمة كورونا من التسييس التلقائي أو المتعمّد أحياناً، على المستويين الداخلي والخارجي، إمّا بسبب انكشاف إمكانات الدول، أو باتّباع «نظرية المؤامرة» وقصور سياساتها الصحّية، وإما في البحث عن مصدر الفيروس، وتحميل بلد المنشأ مسؤولية ظهوره، إذ إن كورونا تعتبر سلالة مصنّعة للفيروسات، ويبدو «كوفيد 19» أخطرها.
بحثت العواصم كافة عن الشفافية في مشاركة المعلومات، ليس فقط عن أعداد المصابين والمتوفين، بل بالأخص عن مخرجات التحاليل المخبرية، للمقارنة بين ما يتوفّر منها حتى الآن، باعتبار أن القضاء على خطر كورونا لن يتم إلا بالنجاح في إنتاج اللقاح المناسب، وهو تحدٍّ يمرّ حالياً بتنافس بين الدول، وبسباق مع الوقت ومع انتشار الفيروس، ولا يبدو أنه سينجز في القريب العاجل، أما التحدي الآخر فيقارب الحلم، إذ يفترض أن التقدّم العلمي يجب أن يتمكن من رصد البيئات التي باتت معروفة حول العالم، بأنها بؤر مشتبه بتصديرها للأمراض، واقتراح الوسائل الكفيلة بمكافحتها استباقياً، وإذا كان هدف كهذا يتطلّب إرادة سياسية، بمقدار ما يحتاج إلى توفير الموارد اللازمة عالمياً، فإن منع ظهور أوبئة يبقى مجرد أمل.