(إن حسني مبارك الذي يتحدث إليكم اليوم يعتز بما قضاه من سنين طويلة في خدمة مصر وشعبها، إن هذا الوطن العزيز هو وطني مثلما هو وطن كل مصري ومصرية، فيه عشت، وحاربت من أجله ودافعت عن أرضه وسيادته ومصالحه، وعلى أرضه أموت، إن الوطن باقٍ والأشخاص زائلون، ومصر العريقة هي الخالدة أبداً)..تلك هي آخر كلمات الرئيس الراحل الأسبق محمد حسني مبارك في خطاب تنحيه عن الحكم وعن المشهد السياسي بعد اندلاع ثورة 25 يناير 2011. ذاك الخطاب الذي ألقاه حينها نائب رئيس الجمهورية عمر سليمان ليعلن تنحي مبارك عن الحكم في 11 فبراير 2011، وتتسلم المؤسسة العسكرية من بعده إدارة شؤون البلاد، أي بعد 30 عاماً قضاها في سدة الحكم، وعبوره محطات بارزة في حياته وفي تاريخ مصر التي أبى أن يفارقها يوماً حتى رحيله يوم الثلاثاء 25 فبراير 2020 عن عمر ناهز 92 عاماً.
الحديث عن مبارك – وهو الرئيس الرابع لجمهورية مصر العربية -كالحديث عن بلده من حيث الفترة التاريخية التي قضاها في الحكم والأحداث التي جرت في عهده، وفي حياته الكثير من الصور التي علينا استذكارها، وهي عموماً لا تغيب عن الذاكرة، فقد شهد عهده عودة مصر إلى عضوية جامعة الدول العربية عام 1989، كما تحسنت علاقاتها مع الدول العربية التي قاطعتها بعد معاهدة السلام التي عقدها السادات مع إسرائيل عام 1979. وخلال عهده استعادت مصر كامل أراضيها -سيناء وطابا -من إسرائيل.
وبالرغم من المعاهدة الموقّعة بين مصر وإسرائيل، إلا أن مبارك كان يختلف كثيراً مع الإسرائيليين حول قضايا عديدة، وخصوصاً تلك المرتبطة بتهويد القدس وخطط الإسرائيليين بشأن توسيع مساحات المستوطنات في الأراضي التي يسكنها الفلسطينيون. وفي الجانب ذاته أدى الرئيس مبارك دوراً كبيراً ومحورياً في محادثات السلام التي تمت بين الفلسطينيين وإسرائيل، والمتتبع لتلك المحادثات سيجد أن مصر لم تغب عنها خلال فترة حكم مبارك الذي كان حريصاً على وصول الطرفين إلى سلام عادل يرضيهما.
وفي عهده كذلك حافظت مصر على موقعها السياسي بالنسبة للخارطة العربية والأفريقية والشرق أوسطية، وهو ما قاد الدول الأفريقية إلى انتخاب مبارك رئيساً لمنظمة الوحدة الأفريقية للفترة ما بين 1989-1993. وفي عهده أيضاً لم تغب مصر عن محيطها الإقليمي والذي كانت مؤثرة فيه. فكان الرجل يملك كاريزما وحضوراً ومقدرة على الجلوس مع الأطراف المختلفة المتنازعة حول قضايا شائكة بهدف تقريب وجهات النظر، وهو الذي حرص على حضور القمم المصغرة منها والطارئة من أجل إيجاد نقاط التقاء بين الأطراف المتنازعة.
لم يختلف مبارك مع الغرب عموماً ولا مع الإدارات الأميركية خصوصاً منذ أن تولى الحكم، إذ كان يدرك أن حضور مصر عربياً وأفريقياً وإقليمياً يتطلب منه أن يؤدي دوره باقتدار في تعميق أواصر الصداقة مع الغرب، مثلما فعل مع العرب الذين ساندهم في مواقف كثيرة كونه رئيساً للدولة حاضنة العرب.
تسع سنوات مرت على مغادرة مبارك منصب الرئاسة وهو يواجه ظروفاً صحية ونفسية صعبة، لكنه لم يقل إلا خيراً في بلده وأهل بلده، وحتى آخر أيام حياته وهو يؤكد على ضرورة محافظة الشعب على وحدة الوطن، ويدعوهم إلى رعاية البلد وحمل رايته والمضي به إلى الأمام، وهو ابن المؤسسة العسكرية التي انتمى إليها في أربعينيات القرن الماضي، ومثلما بدأ مبارك حياته مع القوات المسلحة، كذلك اختُتمت بجنازة عسكرية لا تقام إلا للجنرالات.
وبرحيل مبارك يفقد التاريخ العربي آخر الرؤساء العرب الذين عاشوا وشهدوا أحداثاً كبرى في تاريخ العرب الحديث، وكان له دور بارز في بعضها. فقد عاصر احتلال فلسطين وأجزاء من أراضي مصر ولبنان وسوريا والأردن، وكان في القوات الجوية أيام هزيمة يونيو 1967، لكنه شارك في حرب 1973، ووقف ضد إيران خلال حربها مع العراق، وساعد الكويت في حرب التحرير، كما شهد انهيار دول وتأسيس أخرى وقيام قوى وتحالفات واتفاقيات جميعها أثرت في الخارطة السياسية للعالم، وغير ذلك من الأحداث الكبرى التي صنعت النصف الثاني من القرن العشرين وأوائل القرن الحادي والعشرين.