في حلقة نقاشية شاركت فيها مؤخراً بعمان حول مآلات الانتفاضات الاحتجاجية التي عرفها العالم العربي في السنوات الأخيرة، تركز الحديث حول سبب فشل ما سمي ب«الربيع العربي» الذي أفصي في ساحات عديدة إلى انفجار الكيان السياسي للدولة واندلاع موجة غير مسبوقة من الفتنة الأهلية والصراع الداخلي العنيف. والسؤال الذي يحتاج لجواب معمق هو: لماذا تحول مطلب المواطَنة الذي رفعته الجموع المحتشدة إلى حالة هوياتية متصدعة من خلال الصراعات الدينية والطائفية والإثنية المشتعلة في بلدان عربية عديدة؟
الفرق كبير بين مفهوم المواطنة ومفهوم الهوية رغم تداخلهما في منظور الدولة الوطنية المعبّرة عن الهوية الجماعية المشتركة، ذلك أن هذه الهوية الجماعية هي بالضرورة عبارة عن مجموعة سياسية منظمة وليس عن رابطة انتماء عضوي على أساس عرقي أو اثني أو طائفي، مع العلم أن تلك الرابطة هي دوماً متخيلة ومصطنعة.
وفي كتابه «الأكاذيب التي تربط بيننا»، يبين الفيلسوف الأميركي (من أصل غاني) كوامي أنتوني ابياه، أن مفارقة الهويات تكمن في سماحها بالتكتل والاندماج وتوفيرها محددات للسلوك والتقليد الجماعي، لكنها في الآن ذاته تحمل خطر الإقصاء العدواني والصدام مع الآخر المخالف.
والواقع أن الهويات بالمعنى العقدي أو الثقافي أو العشائري ليست بالجديدة، فكل المجتمعات الإنسانية عرفت هذه المحددات وبلورت صياغات متعددة لها وفق نسيجها المعياري الخاص.. إلا أن فكرة الهوية بمعنى الذاتية المستقلة الواعية بخصوصيتها، ترجع للعصور الأوروبية الحديثة.
ووفق هذا التصور ليست الهوية الجماعية سوى مظهر موسع لذاتية فردية تتحكم كلياً في إرادتها وتتمتع بجوهر ثابت يسمح بتمييزها، فالأمة من هذا المنظور هي كلية روحية مندمجة بوعي مشترك وضمير موحد. ومن ثم تصبح الدولة بهذا المعنى تجسيداً لروح الأمة أو الشعب في رابطة سياسية منظمة، كما كان يقول مفكرو النزعات القومية الأوروبية في القرن التاسع عشر، والقوميون العرب الذين تأثروا بهم في القرن العشرين.
بيد أن الفلاسفة الليبراليين أدركوا منذ هوبز أن هذا التصور الهوياتي ينسف مفهوم السياسة في العصور الحديثة، الذي هو إدارة التنوع الاجتماعي والمعياري من خلال تأسيس مجموعة سياسية منظمة على أساس توافق أدنى حول قيم العدالة الإجرائية الضامنة للإنصاف بين المتعاقدين، بما يعني تحويل الدولة إلى جسم مؤسسي مصطنع هو أفق المجال العمومي الذي يتجاوز مكونات الحالة الاجتماعية الصدامية بالضرورة (تناقضات المجتمع المدني حسب عبارة هيغل).
ما حدث في البلدان الأوروبية هو أن مفهوم الهوية الذي أدى دوراً إيجابياً في مسارات التحرر الفردي والاجتماعي، بانتزاع الفئات والمجموعات الخصوصية حقوقها ضمن فكرة الإنصاف والتمييز الإيجابي، تحول إلى معول لهدم فكرة المواطنة ذاتها، بحيث أصبحت الدولة عاجزة في العديد من البلدان الغربية عن أداء وظيفتها المركزية الأساسية في مواجهة انفجار المطالب الهوياتية الخصوصية، في الوقت الذي تحمل التيارات الشعبوية الصاعدة شعار الانكفاء على الخصوصية القومية «الأصلية» بديلا عن مفهوم المواطنة التعاقدية المفتوحة الذي هو مقوم الديمقراطية الليبرالية الحديثة.
وفي السياق العربي، أدت الفكرة القومية دوراً إيجابياً في عملية الاندماج الاجتماعي في مجتمعات التنوع الديني والطائفي والعشائري، رغم سوء إدارة بعض الأنظمة العروبية لموضوع الهويات الإثنية (المجموعات غير العربية)، إلا أن العجز الفادح للنخب السياسية الحاكمة في جل الدول العربية تمثل في إخفاقها في بناء حقل المواطنة المتساوية، أي تأسيس رابطة مدنية منظمة ومجال عمومي فاعل.
ما حدث مع الموجات الاحتجاجية التي عرفها العالم العربي في السنوات الأخيرة هو أن منطق الهوية في أبعاده الاعترافية الخصوصية قد تغلّب على منطق المواطنة، بما أفضى في نهاية المطاف إلى تحلل الكيان السياسي للدولة على يد جماعات التطرف الديني والمليشيات الطائفية والعشائرية.
لقد لاحظ الفيلسوف الكاميروني «أشيل بمبة» أن السبب الأساسي للفتنة الأهلية في أفريقيا هو نفاذ مفهوم الهوية الأوروبي إلى السياق السياسي الأفريقي الذي لم يعرف في السابق فكرة الذاتيات الجوهرية الجامدة، بل إن الثقافات الأفريقية تصورت دوماً الهوية كمجال للتفاعل والتداخل وكأفق للتكتل المفتوح.
إن هذا الفهم للهويات هو الذي عرفه تاريخنا العربي الإسلامي في نسيجه الاجتماعي المتنوع، والمطلوب اليوم هو العودة إليه في إطار تحقيق مطلب المواطنة الحديث الذي لا شك أنه الرهان الأكبر المطروح على النخب السياسية العربية في المستقبل المنظور.