رغم أهمية العامل الجغرافي في تحديد بعض أشكال العمران في طرق المعاش، وربما أيضاً في أمزجة البشر، فإنه ليس بهذه الحتمية. فمازال البشر قادرين على تجاوز الحتمية الجغرافية إلى الحرية الإنسانية والقدرة على السيطرة على مظاهر الطبيعة وتسخير قوانينها. يستطيع الإنسان أن يكسب أيضاً بردم البحر، وأن يستورد الحديد والطاقة للتصنيع. وليس العمران مرتبطاً بالضرورة بالربع الشمالي إلا في العصور الحديثة. أما في العصور القديمة فقد كان العمران في الربع الجنوبي، في أفريقيا (مصر) وفي آسيا (الهند) وفي أميركا الوسطى (حضارة الأوتريسك). لقد ارتبطت الأقاليم الجغرافية السبعة القديمة بعلم الفلك القديم عند بطليموس، ولم يعد الأمر كذلك الآن، كما استطاع الإنسان أن يتحكم في الحرارة بالتبريد، وفي البرودة بالتسخين، وفي الهواء بالبناء، وعلى المياه بالسدود، وعلى الصحراء بالبحيرات الصناعية.. كما تجاوز المواسم الزراعية بالزراعة المغطاة، والأمطار الاصطناعية، وتحلية مياه البحر.. وبدأ ينقل الغذاء من المناطق الزراعية الخصبة إلى المناطق القاحلة مع تعاظم طرق النقل وبفضل التعاون الدولي والتجارة العالمية.
وإذا كان هناك من البشر المدركون بالفطرة أو الرياضة الروحية أو الرؤيا الصادقة أو النبوة والوحي ووسائل الإدراك الحدسي، فقد تحول ذلك الآن إلى العلم وطرقه ومناهجه، وإلى استشراف المستقبل وعلوم المستقبليات، ولم تعد هناك إمكانية للتخمين والظن وضرب الأقداح وقراءة الكف والفنجان وخط الرمل ورمي الحصى.
هناك الجغرافيا البشرية أو قدرة البشر على التأثير في الجغرافيا، مقابل قدرة الجغرافيا على التأثير في البشر. فالإنسان في النهاية سيد الطبيعة. وهناك الجغرافيا السياسية أو «عبقرية المكان»، أي قدرة البشر على تحويل الموقع الجغرافي إلى موقف سياسي مثل توسط مصر بين القارات الثلاث، وتوسط البحر الأبيض المتوسط بين الشرق والغرب والشمال والجنوب، وحصار الولايات المتحدة الأميركية بين الأطلسي شرقاً والهادي غرباً.
ويحتاج العمران البشري إلى سياسة تنظم أموره، تقوم على العدل وتنبذ الظلم. وكما قامت السماوات والأرض على العدل، كذلك يقوم نظام البشر. فلا فرق بين العالم الأكبر والعالم الأصغر، كما قال «إخوان الصفا» من قبل.
ويقوم المخلِّص بإنقاذ الأمة مما وقع عليها من ظلم، ويعيد العدل، أي يملأ الأرض عدلا كما مُلئت جوراً، كما في علم «الجفر والحدثان» المنسوب للأمام علي بن أبي طالب، وقد تضمّن قوانين التاريخ وتنبأ بمساره. لذا فليس للغرب أن يزهو وحده بأنه واضع فلسفة التاريخ وهي موجودة بأحد الأشكال في كل حضارة.
والدول هي صانعة الحضارة في الأمصار، والحضارة تَرسُخ برسوخ الدول وتضعف بضعفها، وهي غاية العمران ومنها تظهر المؤشرات المؤذنة بضعفه أو قوته. وتعني الحضارة هنا حياة البذخ والترف، وما تحتويه من مظاهر تنخر فيها كما قال فرويد في «مستقبل وهم»، ومن قبله روسو. وتنهار الأمصار التي يبدأ فيها خراب الدول، حيث لا تعود مراكز ولا عواصم لدولها. أما الدول الرخوة هذه الأيام فهي لا تستطيع الحفاظ على استقرارها الهش. وبضعف المركز تتفتت الأطراف وتتبعثر الأمة وتضيع بلدانها، وتضارب اتجاهاتها، طائفياً وعرقياً ومناطقياً.

*أستاذ الفلسفة -جامعة القاهرة