تتساءل أحياناً أين تلك المعادلات الأيديولوجية والسياسية التي ضج بها العالم أجيالاً وأجيالاً؟ أين فكرة اليميين واليسار، أين الأحزاب التي التزمت التقدمية والرجعية، والتي قسمت العالم معسكرين: العالم الحر، اليميني الليبرالي الغربي، والشرقي الذي يجسد اليسار الشيوعي أو التروتسكي أو الماوي، والذي جسد منه بشكل أساسي الاتحاد السوفييتي (الستار الحديدي). أي الثنائي الكبير لما هو في المفهوم الديني الشر والخير الأبيض والأسود. فكان عليك أن تختار: أتكون تقدمياً أو رجعياً أو بين الاثنين وسطياً أو إصلاحياً والإصلاحي في رأي اليسار الجذري مجرد ترقيع للنظام أو بعث له... كيف انسحر العالم بهذه النظريات الثابتة والمعلبة سواء آمنت بحركة التاريخ الحتمية أم بالتطورية، أو بالجدلية المادية وخلافها التفاعلية. وكلها مصطلحات لا تلتقي عادة على أرض مشتركة. لأنها الحداثة التي ضمت النقيضين بل صراعات وحروباً.
لكن نتساءل أيضاً اليوم كيف ذابت كل هذه الأفكار «العظيمة«(الأبدية) وباتت جزءاً من ماضٍ منكر أو مسروق؟ كيف انهارت فكرة التقدمية ومعها مندرجاتها وأحزابها وفلاسفتها! لكن عندما تزول التقدمية تزول معها الرجعية. وعندما يسقط اليسار يسقط معه اليمين. فكأن كلاً منهما ضرورة لبقاء الآخر. لكن ألا نتذكر أن فكرة التقدمية نفسها (التقدم بصفته قدراً للإنسان) قد تهاوى منها الكثير بعد الحرب العالمية الأولى لما خلفته من وحشية ودمار وضحايا (عشرين مليون قتيل) ثم الحرب العالمية الثانية وقنبلتاها الذريتان (هيروشيما وناجازاكي، وظاهرة هتلر العنصرية وستالين الديكتاتورية وسواهما من أبطال الحروب.
    ونتذكر أنه في الستينات والسبعينات ظهرت (الأوروكومونيسم) أي الشيوعية الأوروبية التي قادتها أحزاب شيوعية إيطالية وإسبانية ومن هذه الحتميات ديكتاتورية البروليتاريا، وكذلك الاستقلال عن مركزية الاتحاد السوفييتي. وهما أولى الضربات القاسية في جذور الأيديولوجيا الماركسية اللينينية. بل هذا نذير بتفكك المنظومة السوفييتية التي بدأت تترهل في السبعينات وتضعف وتعاني أوضاعاً اقتصادية كبيرة. ولم تكن تنتظر سوى هزة لتتفكك كلها. وهذا ما حدث في سقوط جدار برلين. إنها الضربة القاتلة لفكرة التاريخ وحركته كما فهمه الشيوعيون، وها هو فوكوياما يعلن في كتابه نهاية التاريخ انتصار الليبرالية المفتوحة المجسدة في الولايات المتحدة ونهاية الشيوعية.
    أما عندنا فقد انعكس هذا الانقسام الأيديولوجي على مختلف الأحزاب القومية واليسارية واليمينية والتقدمية... وكان الصراع مريراً صراع الأيديولوجيات الأحادية والتعددية. لكن الحركات العسكرية في بعض البلاد العربية (الضباط الأحرار في مصر الذي تحول ثورة عظيمة شعبية مع الرئيس جمال عبدالناصر الاستثنائي في تعامله مع هذه الانتظارات).
أما لبنان فقد تمكن ضمن صيغة نظامه الطائفي أن يرسم جمهورية تتمتع بحكم ديمقراطية نسبي. لكن هذه الصيغة الخليطة تهددت عام 1958 وخصوصا عام 1975 بحروب شرسة دمرت كل شيء وسحقت كل الأحزاب والتيارات والحركات سواء يسارية أو يمينية أو تقدمية أو رجعية لتنتهي وقد أجهزت على كل هذه الظواهر المتعددة لمصلحة المذهبية: لا أحزاب مدنية اليوم في لبنان ولا أفكار ولا مشاريع إصلاحية. فالمذهبية التي أدخلت قوى خارجية إلى معادلات البلد حطمت حتى فكرة السيادة، بل فكرة الوطن والحدود والشعب...
فكل الوافدين لإنقاذ لبنان من الخارج استوطنوه كوصايات أو احتلالات من سوريا إلى إسرائيل فإلى إيران وحزبها المهيمن اليوم على كل مفاصل الدولة.
*كاتب لبناني