يحدث التأمل عندما يختلي الإنسان بذاته، ويسترخي ويديم النظر في المخلوقات، وعند التأمل تتحفز الطاقة الإيجابية الكامنة في الجسم، ويتهيأ الذهن بعدها لعملية التفكر والتساؤل عن علة وجود المخلوقات، وما الحكمة من خلقها؟ والمرحلة التي تليها هي التدبر في الفكرة التي أثارت المتأمل، إنه لمن العبرة أن أسرد قصة تأمل سيدنا إبراهيم، والنبي محمد - عليهما الصلاة والسلام- في الكون، من أجل البحث عن الحقيقة المطلقة ومعرفة الله، في تلك الليلة التي تفكر فيها سيدنا إبراهيم، وهو يتأمل ملكوت الكون من هو ربه؟ تفكر في إله المخلوقات، وكان متيقناً بأنه أعظم وأسمى عن ما يعبد قومه، تسأل أنه ربما يكون إله الكون كوكباً من الكواكب! ثم فكّر وقدّر بأنه لا يُعقل أن يتغيب الإله عن الكون، فتدبر بأن هناك ربّاً لا تدركه الأبصار عظيماً خلقه، وأوجد هذا الكون من عدم، ونتيجة عن هذا التدبر أنكر عبادة الأصنام، وآمن بإله الكون، كان النبي محمداً-عليه الصلاة والسلام- على نهج سيدنا إبراهيم يتأمل ويتدبر في ملكوت السماوات والأرض، حتى اعتزل قومه وعباداتهم، وتوجه إلى غار حراء، ليقضي وقتاً في التأمل والتفكَّر.
إذا أمعنا النظر بالتأمل في النعم التي أودعها الله تعالى في أنفسنا، وتفكّرنا على سبيل المثال في الهيئة التي خلق الله بها أصابع اليد الخمسة والحكمة من خلقها؟ ولماذا خمسة أصابع غير متساوية في الخِلقة؟ وما منفعة كل إصبع؟ فسوف نعجز عن الإجابة عن بعض الأسئلة، فاليد مثلاً تظهر مهارتها في الكتابة والرسم والنحت، والعزف والمعالجة، والتنظيف، وبها نتوضأ نسبح ندعي نأكل نشرب ونصافح...إلخ. وإذا تدبرنا الحكمة من خلق كل إصبع ووظيفته، لوجدنا أن كل إصبع له علاقة مباشرة بعضو من أعضاء جسم الإنسان، إن بعض مؤشرات الأمراض بالجسم تتسبب بوخز في أحد أصابع اليد، سنجد أن نعمة اليد ومنافعها لا تعد ولا تحصى.
إن التفكر والتدّبر يصل بالإنسان في نهاية المطاف إلى إدراك عظمة خالق الكون، وهي خاصية تجدها عند الأنبياء والعلماء والفلاسفة والفنانين، فلم يصلوا إلى هذه المنزلة إلا لقدرتهم على الاختلاء بالذات والتأمل، فتفكر العلماء وبحوثهم الدائمة في شتى المجالات العلمية، أنتجت لنا اختراعات واكتشافات ساهمت في تطور الحياة والنهوض بها، ومنهم من وقف حائراً أمام أسرار الكون، واعتنق الديانة الإسلامية بسبب الإعجاز العلمي في القرآن، وهذا دليل قاطع على أن العلماء أكثر الناس خشية لله، كذلك التأمل والتفكر جزء راسخ في حياة الفلاسفة، ففي علم «الاستطيقا» أو علم الجمال، حيث صنّف كثير من الفلاسفة الجمال الحسي أو الخارجي، بأنه مرتبط بالجمال الإلهي أو عالم المُثل أو الحق، وأكد بأن مصدر الجمال الأرضي هو عالم غيبي (الله) والمخلوقات استمدت جمالها منه، الفنان المتأمل في الطبيعة، لديه روح التساؤل والتفكر في قضايا المجتمع، ويستطيع من خلال أعماله الفنية (التصوير أو الرسم أو الأغاني الوطنية أو الأشعار) إيصال رسائل بطريقة فنية وشاعرية للطبقة الحاكمة، ويستطيع أيضاً أن يؤثر في الرأي العام، نجد الكثير من الآيات القرآنية تحث على ضرورة التفكر والتدبر قال الله تعالى: «إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون»، «وفي أنفُسكم أفلا تُبصرُون»، فالتأمل والتفكر في الذات، وملكوت الكون يثير في نفس الإنسان روح التساؤل، والتي تقوده إلى التعمق في العلم وزيادة حصيلته المعرفية.
*أستاذ مساعد بأكاديمية الإمارات الدبلوماسية.