أكتوى العرب وغيرهم من شعوب الدول النامية بنار حارقة ما زالت آلامها وآثارها مستمرة حتى اليوم، وذلك بسبب غيابهم طويلاً عن المحافل والمعاهدات والاتفاقيات الدولية التي رتّبت مصائرهم، فكانوا كالأيتام على موائد اللئام، لكن في هذا الوقت من التاريخ لم يعد ثمة مجال لتكرار ما حدث، مع أنه متاح في كل وقت، وكأن حكومات تلك الدول لم تستفد من كل أحداث التاريخ العظيمة التي عصفت بالمنطقة العربية. غير أنه وفي المقابل تعمل بعض الدول على إثبات حضورها سياسياً ودبلوماسياً كما تفعل دولة الإمارات العربية المتحدة التي تحاول أن تكون حاضرة في الفعاليات الدولية ذات الأثر على المنطقة العربية أو ما يتصل بها، وذلك عبر مشاركات عالية المستوى وحضور في عدة ملفات أغلب نتائجها لن تُرى ثماره إلا بعد سنوات.
من الفعاليات العالمية التي شاركت فيها الإمارات مؤخراً «مؤتمر ميونيخ للأمن» الذي تأسس عام 1963 ليضم أعضاء حلف الأطلسي فقط، وتعتبره جامعة بنسلفانيا أهم مؤتمر عالمي حسب تصنيفها للمؤتمرات الدولية، وذلك باعتباره النسخة الأمنية لمؤتمر دافوس. لكن منذ نهاية التسعينيات بدأ المؤتمر مرحلة جديدة ونهجاً مختلفاً عن نهجه السابق، حيث انفتح على المزيد من المشاركين، ففتح المجال لدول أوروبا الشرقية ثم أوروبا الوسطى للمشاركة فيه، كما مكّن عدداً من الفاعلين الدوليين من عسكريين كبار ووزراء دفاع وجمعيات بيئية وغيرها من حضور جلساته، بحيث يكون الليبراليون إلى جانب المحافظين ينفتحون على نقاشات جامعة وغنية بشأن قضية ما، كما يقيمون جلسات عصف ذهني يشارك فيها الصفوة من صناع القرار في العالم، وذلك في سبيل مناقشة الأزمات والمشكلات السياسية والاقتصادية، ومن ثم اقتراح حلول لها. ولم يكتفِ المؤتمر بهذا الدور، إنما حرص القائمون عليه على توفير أجواء مناسبة لإقامة لقاءات تتم بعيداً عن الإعلام وعدسات المصورين.
في دورة هذا العام - التي تعد حسب مطّلعين ومقيّمين أنها الأكبر والأكثر أهمية منذ إطلاق أول نسخة من المؤتمر في ستينيات القرن الماضي - اجتمع أكثر من 500 زعيم ووزير وجنرال ومدير من أكثر من سبعين بلداً لبحث القضايا الأمنية، ومناقشة التعاون عبر الأطلسي (العلاقات الأوروبية - الأميركية)، إلى جانب الحديث عن تداعيات تجدد التنافس بين القوى الكبرى، فضلاً عن طرح أهم ملفات من الشرق الأوسط الحالية، انطلاقاً من تأمين الملاحة في مياه الخليج العربي، مروراً بالأوضاع في سوريا وليبيا، وغيرها من القضايا الكبرى.
وفي هذا المؤتمر حرص الوفد الإماراتي على عقد العديد من اللقاءات مع الوفود المشاركة لشرح أبعاد وأخطار الأحداث الخطيرة التي تجري في منطقة الشرق الأوسط، مع تبيان آثارها السلبية على الأمنين القومي العربي، محذراً الوفد من مغبة تقويض الجهود الدولية بفعل التدخلات الإقليمية. وفي المؤتمر أكد معالي الدكتور أنور قرقاش وزير الدولة للشؤون الخارجية موقف الإمارات الداعم للحل السياسي في ليبيا وفق مقررات مؤتمر برلين، ومشدداً على أن تدخل الأطراف الخارجية يؤجج الصراع، ولا يسهم مطلقاً في تحقيق الأمن والاستقرار.
لكن خلف الأبواب المغلقة كانت تجري لقاءات دبلوماسية رفيعة المستوى لقياس المواقف، وللوقوف على أرضية مشتركة في القضايا الدولية الملحة، ولا شك أن المسؤولين الممثلين لدول العالم المشاركة في المؤتمر كانوا يعملون على استكشاف الأرضيات المشتركة في ما يتعلق بالقضايا الدولية، إلى جانب بناء التحالفات والمواقف الموحدة، الأمر الذي جعل من المؤتمر منصة مهمة لصناعة القرار، وخير مثال على ما توفره القنوات السرية للمؤتمر من مساحة لتبادل وجهات النظر، اتفاقية «ستارت 2 للحد من الأسلحة النووية» القائمة بين الولايات المتحدة وروسيا، والتي بدأت المفاوضات بشأنها على هامش مؤتمر ميونيخ عام 2009. حينها حرصت وزيرة خارجية الولايات المتحدة هيلاري كلينتون ووزير خارجية روسيا سيرجي لافروف على تبادل وثائق التصديق على الاتفاقية. لكن منذ ذلك التاريخ أصبح المؤتمر بعيداً عن تحقيق إنجازات مماثلة، أو حتى ملامسة مبادئه الأساسية باعتباره منصة للتقارب، وأرضية مناسبة لبناء التحالفات وتعزيز المواقف المشتركة إزاء الأمن والسلام العالميين.
وحتى مؤتمر 2020 فقد انفضّ بعد 48 ساعة من المناقشات المتواصلة بشأن القضايا والأزمات الملحّة في العالم ودون نتيجة ملموسة، والسبب في ذلك يعود إلى الأجواء القلقة والمشحونة التي سادت بين الأطراف. ذلك أن المباحثات كانت قد طغت عليها الخلافات بشأن جدول الأعمال، حتى أن البيان الختامي وما صاحبه من تصريحات ألقى بظلاله على المشاركين فأعاد إلى أذهانهم شبح أيام الحرب الباردة، وهو ما دفع الخبراء والمراقبين إلى التساؤل بجدية: هل العالم على مشارف حرب باردة جديدة؟!
الأيام حبلى بالكثير، وسننتظر ما ستسفر عنه، وأغلب الظن أن الانتظار لن يطول في ظل تشابك المصالح وتعقيدات المواقف وتداخلها بصورة ربما لم يسبق لها مثيل. ثم إن ما حدث في التاريخ البعيد والقريب من مواقف وتصريحات، سيعيدنا إلى نقطة مهمة، وهي ألا ننشغل كثيراً بالتصريحات المعلنة، لأن أغلبها - إن لم تكن كلها – للاستهلاك ولتمرير الوقت، وأحياناً لتفويت الفرص.