على ضوء تنفيذ بريطانيا لعملية خروجها النهائي من الاتحاد الأوروبي، نتيجة للاستفتاء الذي أجري بهذا الشأن يتساءل الكثيرون: لماذا قرر البريطانيون فعل ذلك وبلادهم هي النواة التي بني حولها هذا الاتحاد الذي يضم الآن عدداً كبيراً من الدول الأوروبية من الشرق إلى الغرب، وتصل حدوده قريباً في أوكرانيا على التخوم الروسية، وذلك منذ بداية خمسينيات القرن العشرين، وتوقيع اتفاقية توحيد النقل بالسكك الحديدية، التي قامت عليها بعد ذلك السوق الأوروبية المشتركة، فالاتحاد الأوروبي ثم بعد ذلك اتفاقية ماسترخت.
والحقيقة أن كاتبكم لم يتوقع يوماً حدوث مثل هذا الطلاق السريع والمفاجئ بين بريطانيا والاتحاد الأوروبي، لكن الأمر وقع وحدث ما حدث. ويعود السبب في عدم توقع خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي إلى أسباب اقتصادية على الأقل، فما بالك بالأسباب السياسية والأمنية- الدفاعية.
على أثر عدم حدوث التوقع بعدم الانفصال، ولو لأسباب اقتصادية أخذت في التمعن والتدقيق في الأسباب، لعلني أجد تفسيراً منطقياً ومقنعاً من كافة النواحي الاقتصادية والسياسية والأمنية - الدفاعية، لكني لم أجد ضالتي، فقررت البحث في أسباب أخرى.
منذ أيام دراسة الدكتوراه في بريطانيا تربطني بالعامة البريطانية، خاصة الإنجليز منهم، صداقات وعلاقات شخصية ومعارف تكوّنت نتيجة للعيش بينهم كطالب وفي أنحاء متفرقة من البلاد، فقررت أن أستقصي حول الأمر في أوساط هؤلاء المعارف والأصدقاء عن أسباب هذا الخروج من منظومة سياسية – اقتصادية وأمنية البقاء في وسطها أكثر فائدة من الابتعاد عنها، من وجهة نظر مراقب خارجي على الأقل كمحدثكم.
إحدى القرى التي تعودت على الاختلاط كثيراً بأهلها هي «هاي - أون - وي»، وهي قرية تقع على الحدود الغربية - الجنوبية بين إقليمي إنجلند وويلز، ومشهورة جداً في بريطانيا ببيع الكتب القديمة والنادرة كنت أقصدها كثيراً في أيام الدراسة.
في هذه القرية لي صداقة مع أسرة الزوج فيها إنجليزي والزوجة «ويلزية» قررت أن أزورها مباشرة بعد قرار الاستفتاء بالخروج من الاتحاد الأوروبي لأني شعرت بأني سأجد الإجابة على السبب الحقيقي عندهم، وطرحت السؤال التالي: لماذا تعتقدان بأن بلادكم قد خرجت من الاتحاد الأوروبي، وهل هذا مفيد لكم كمواطنين أم العكس؟
كانت دهشتي من الإجابة أكبر من دهشة الخروج ذاته، منذ قال صديقي الإنجليزي بأن السبب لدينا نحن كمواطنين هو ثقافي - اجتماعي محض ليس له علاقة بأية جوانب أخرى، وهو مفيد لنا ونحن مستعدين لدفع ثمن الخروج وإنْ كان باهظاً.
عندها بدأ شريط الماضي يدور في مخيلتي، وأتذكر بأن الإنجليزي لا يطيقون مطلقاً أن يجلسوا في الصف الثاني، فما بالك بالصفوف الخلفية التي حاولت بعض دول أوروبا الأخرى أن تدفعهم قسراً إليها نتيجة للأوضاع الطارئة التي يمر بها الاقتصاد البريطاني.
ومن جانب آخر البريطانيون تقليديون ومحافظون في كل شيء ومتمسكون بثقافتهم الأصيلة ولا يميلون عنها قيد أنملة ولا يطيقون أن يمسها أي كان ولو بشعرة، فكيف لهم أن يكونوا قادرين على تحمل كل هؤلاء البشر القادمين حديثاً إلى بلادهم، وكل منهم لديه ثقافته الخاصة، لكي يعيشوا في أوساطهم ويغيروا من عاداتهم وتقاليدهم وثوابتهم الاجتماعية وثقافتهم العريقة الموغلة في عمر الزمن.
لكن لا يجب أن يؤخذ ذلك بصورة خاطئة بأنه عنصرية أو كره للغرباء، بل عوضاً عن ذلك هو قمة المحافظة على الثقافة النقية والمجتمع الأصيل.
في بريطانيا من الصعب ألا يكون المواطن محافظاً محب لثقافته وتقاليده وماضيه العريق، فالفندق الذي كنت أسكن فيه في قرية هاي - أون - واي بُني في العام 1401 للميلاد والقرية ذاتها تأسست عام 1150 للميلاد وقس على ذلك العديد من المباني والصروح والعادات والتقاليد والأسس الاجتماعية والثقافية.
وبريطانيا ذاتها كدولة عظمى سابقة لديها فخر إمبريالي بالتاريخ، فهي وطن لشعب طاف العالم بكامله وكون إمبراطورية لا تغيب عنها الشمس، وعاد وهو يحمل معه الغنى، ليس مجرد الغنى المادي، ولكنه عاد أيضاً ومعه الأفكار الجديدة والشعور الواضح بما يدور في العالم وبالروح الخلاقة التي أسهمت كثيراً في الحضارة البشرية والتقدم الإنساني.
لذلك، كما يقول صديقي الإنجليزي: «نحن لا نتحمل أبداً أن يقودنا الآخرون أو أن يمسوا ثقافتنا، فقمنا باستعادة بلادنا لنا وحدنا».

*كاتب إماراتي