المقاومة الثقافية هي بديل مضادة لثقافة الهزيمة والهيمنة وانتهاك الحقوق الوطنية، وهي صورة لثقافة الحريات والعدالة وكرامة الإنسان والوطن. وتجسيداً لموقفها الداعم للقضية الفلسطينية، وبمناسبة الذكرى السبعين للنكبة، أطلقت «مؤسسة الفكر العربي» تقريرها «الحادي عشر للتنمية الثقافية»، تحت عنوان «فلسطين في مرايا الفكر والثقافة والإبداع». وفي حفل إطلاق التقرير، في مدينة الظهران بالمملكة العربية السعودية، ألقى رئيس المؤسسة، صاحب السمو الملكي الأمير خالد الفيصل، كلمة مؤثرة بدأها بالقول: «ليست لدي كلمة اليوم، كلمتي واحدة هي فلسطين، فأهلاً بكم في الحديث عنها، وبتقديم فلسطين في هذا التقرير الذي أعتبره أفضل التقارير التي قدمتها مؤسسة الفكر العربي، وأكبرها حجماً، وأهمها علماً وثقافة. أعتقد أن الذين ساهموا في كتابة هذا التقرير، لم يكتبوه فقط، وإنما أذابوا أنفسهم وعقولهم فيه.. فلنضع أيدينا في أيدي بعض في سبيل فلسطين العزيزة التي تستحق منا كل تضحية.. إلى الأمام وإلى موعدنا المستقبلي في القدس الشريف».
وبالطبع، لابد من وجود مقاومة في ظل الاحتلال. وحين تكون ثمة ثقافة احتلال مصاحبة، فلابد من وجود مقاومة ثقافية. ومن ثم فإن مقاومة الاحتلال هي عملية ثقافية مضادة، تسعى لتثبيت الثقافة الأصيلة. فإسرائيل القائمة على الهجرة الغزو والاستيطان، فشلت في إنتاج مجتمع متجانس له ثقافة أو هوية موحدة. لذا، فكل محاولة، فلسطينية كانت أم عربية، لترسيخ وتثبيت الهوية الفلسطينية الثقافية تأتي في سياق المقاومة بمفهومها الشامل، مباركة ومرحب بها. من هنا، جاء تأكيد المدير العام للمؤسسة البرفيسور هنري العَويط، أن التقرير «فضلاً عن أنه يُسهم في ترسيخ توجّهات المؤسّسة الفكرية، فهو يضطلع أيضاً بمهمّة الإعلان عن مفهومها للثقافة ودورها ووظيفتها كفعلِ مقاومة، ولأنّه يُترجم موقفها المناهض للاحتلال والداعم لفلسطين وقضيّتها والمؤيّد لحقوق شعبها».
وحيث أن الثقافة الفلسطينية، في ظل الاحتلال الاقتلاعي الإحلالي هي في خطر دائم، تترسخ المقولة التي لطالما آمنا بها وهي أنه مثلما لا يوجد تقدم بدون ثقافة تقدمية، كذلك لا صمود ولا تحرير ولا عودة بدون ثقافة صمود وتحرير وعودة. ومعلوم أن احتلال العقل ربما يوازي صعوبة احتلال الأرض، فالدولة الصهيونية تحاول نسف الذاكرة الفلسطينية وطمسها وسرقتها إن استطاعت، لذا نجدها تقوم بتغيير أسماء المدن والبلدات والقرى والمناطق. هنا تظهر أهمية المقاومة الثقافية القادرة على حماية العقل، وهو أمر رصده الشهيد غسان كنفاني منذ زمن طويل عندما تحدث عن القاعدة الثقافية التي تؤسس للمقاومة، كاشفاً العلاقة بين السياسة والثقافة.. البندقية والفكر، حيث كتب: «ليست المقاومة المسلحة قشرة، هي ثمرة لزرعة ضاربة جذورها عميقاً في الأرض.. ومن هنا فإن الشكل الثقافي في المقاومة يطرح أهمية قصوى ليست أبداً أقل قيمة من المقاومة المسلحة ذاتها».
الخطوة الأولى، باتجاه تطوير ثقافة المقاومة وتنميتها، تبدأ من خلال الوعي الموضوعي بالتحديات، وبناء رؤية متماسكة، في ضوء مراجعات فكرية لثقافة المقاومة، وتعزيز قيم وآليات جديدة لثقافة بنّاءة، وهو ما رسخته المحاور السبعة لتقرير «مؤسسة الفكر العربي»، والتي تناولت فلسطين وقضيتها عبر تجليات الإبداع الفكري والثقافي والأدبي والفنّي، وهي: فلسطين في فكرِ رجالات النهضة العربية، فلسطين فلسفياً، وفي مدارات العلوم الإنسانية، فلسطين: التاريخ والهوية، فلسطين في مرايا الأدب والفنّ والإبداع، فلسطين في مرايا الثقافة العالمية، اللّغة والتربية والعلوم في فلسطين، وملفّ القدس.
ومما يستحق ثناءً خاصاً كون التقرير تضمن بيبليوغرافيا توثيقية موسعة، حرصت على التعريف بأهم ما صدر في الأعوام الأخيرة (2014 –2018) من مؤلفات باللغتين الفرنسية والإنجليزية حول تاريخ فلسطين، وقضيتها، ومدنها، ونتاج أبنائها الإبداعي. كما حرص التقرير في معرض التصدّي لمحاولات تزوير التاريخ، على تصحيح الروايات، وتقديم الأدلة على عراقة الانتماء، والتعريف بمشاريع إحياء التراث، وإبراز كل ما يؤول إلى حفظ الهوية الفلسطينية وأصالتها.
التقرير جهدٌ مبارك في سياق المقاومة الفلسطينية المشروعة للاحتلال الإسرائيلي، والمكفولة في القانون الدولي، فهي تجسد إعمالاً لحق أساسي من حقوق الإنسان، ألا هو حق الدفاع الشرعي عن النفس (أي الذات والهوية والحق في تقرير المصير).