خلال الأربع سنوات الماضية، كان من المستحيل الذهاب إلى مؤتمر للشؤون العالمية من دون مناقشة صعود الشعبوية. وحتى إذا لم يكن ذاك هو الموضوع المقصود، فإنه ينتهي به الأمر إلى الهيمنة على الحوار. ولهذا، فإنه من المثير للاهتمام ملاحظة أن الموضوع الذي طغى على مؤتمر ميونخ للأمن مختلف عن الموضوع الذي هيمن على الخطاب. وحتى أحوّر عبارة «جان برادي» من سلسلة «مجموعة برادي» التلفزيونية، فإن المؤتمر كان كله يدور حول «الصين، الصين، الصين!».
اللافت بخصوص هذا الموضوع هو أن المؤتمر حاول – أقصد حاول حقا – تبني الموضوع الشعبوي. لا بد أن هذا بدا خطوة حكيمة عندما كان رئيس المؤتمر «وولفجانج إيشنجر» وفريقه يحضّرون له. فجذور مؤتمر برلين للأمن تعود إلى الفضاء العابر للأطلسي، وكل واحد من جانبي الأطلسي كانت لديه مشاكله. الولايات المتحدة كانت وسط محاكمة عزل؛ وبريكست كانت تحدث. وبالتالي، فلا غرو أن المؤتمر نحت مصطلح «أفول الغرب» وغير ذلك.
هذا الموضوع تطرق له بعض المتحدثين في المؤتمر. فوزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو خصص كل خطابه ليؤكد أن الموضوع في غير محله وأن «الغرب بصدد الفوز»، ادعاء وجده معظم الحاضرين مثيراً للضحك. ومؤسس «فيسبوك» مارك زوكيربيرج خضع للمساءلة بشأن استخدام وسائل التواصل الاجتماعي للتدخل في الانتخابات الغربية. كما سمعتُ بعض أعضاء الكونجرس الأذكياء يتحدثون عن الضغوط الشعبوية التي واجهوها في الولايات المتحدة.
ولكن لكي أكون صادقاً، فإن الصين أرخت بظلال كبيرة على المؤتمر.
وقد يبدو هذا غير مفاجئ بالنسبة للمهتمين العرضيين بالسياسة العالمية، ولكن موقف المؤتمر من الصين تغير بشكل جذري في ظرف عام واحد. فمؤتمرا 2018 و2019 لم يتناولا الصين بأي عمق حقيقي. أما هذا العام، فقد كُرست الجلسات العمومية والعديد من الجلسات الجانبية للصين. فرئيسة مجلس النواب الأميركي «هواوي» عن شبكات الجيل الخامس (5 جي). ومن جانبه، تحدث أمين عام حلف الناتو يانس ستولتنبرغ عن التحالف بوصفه مركز تنسيق طبيعيا للتعاون العابر للأطلسي للتعاطي مع الصين. وبالفعل، فبعيد الكلمة التي ألقاها بومبيو، والتي تحدث فيها عن كيف أن كل شيء على أفضل ما يرام، وأن الغرب بصدد الفوز، خصّص وزير الدفاع الأميركي مارك إيسبر خطابه للتهديد الصيني. فزعم خلال كلمته بـ«أننا لا نسعى لنزاع مع الصين» – أعقبتها خمس دقائق على الأقل من التقريع الشديد للسياسة الصينية.
المسؤولون الأميركيون تحدثوا عن الصين كثيراً جداً في الفعاليات التي حضرتُها لدرجة أنني سمعت كل الكليشيهات الجديدة، مثل «إن5 ج» ينبغي أن ينظر إليها عبر عدسات الأمن القومي أكثر منها عبر عدسات اقتصادية»، و«إن مشكلتنا ليست مع الشعب الصيني، وإنما مع الحزب الشيوعي الصيني»، و«إن صعود هواوي هو نتيجة لدعم ضخم»، و«إن الصين تسعى للهيمنة على الحكامة العالمية».
واللافت هو حجم الإجماع الحزبي والعابر للأطلسي بشأن الحذر من الصين. فقد حضرتُ اجتماعاً مع عشرة أعضاء في الكونجرس، تحدثوا جميعهم عن الصين. وقد كان خطابهم جد منسجم ومتناغم لدرجة أنني لو أغلقت عيني لكان من المستحيل علي تمييز «الجمهوريين» عن «الديمقراطيين». وحتى كلمات المشاركين الأوروبيين من إستونيا إلى بولندا إلى ألمانيا إلى بلدان البينيلوكس (هولندا وبلجيكا ولكسمبورج)، بدت شرسة ومتشددة بخصوص الصين.
لقد كان الخطاب متماثلاً وموحداً جداً لدرجة أن المرء يتساءل حول ما إن كان بعض المشاركين قد قرروا أن العلاقات العابرة للأطلسي تكون في أفضل وأقوى أحوالها عندما يكون ثمة تهديد خارجي مشترك، وأن الصين باتت الآن كبيرة لتخدم هذا الهدف.
ولكن لا بد من الإشارة أيضا خلال مؤتمر ميونخ إلى ردود الحاضرين الصينيين. فانسجاماً مع الاتجاهات الأخيرة، رد هؤلاء على الخطاب الغربي العدائي بخطاب خاص بهم. وتزعّم الهجومَ «فو وينغ»، الذي رد على بيلوسي. كما سخر العديد من الحاضرين الصينيين من فكرة أن ثمة أسباباً للقلق بشأن «5 جي»، أو «مبادرة الحزام والطريق»، ما حد من مصداقيتهم.
وإذا كان الإجماع بشأن تحديد التهديد هو الخطوة الأولى لتشكيل تعاون عابر للأطلسي، فإن ذلك الإجماع كان واضحاً بعد مؤتمر ميونخ. أما ما إن كان ذلك سيترجم عملياً إلى سياسات، فهذا أمر قابل للنقاش. ذلك أن الأوروبيين الذين بدوا مقنعين وجادين لم يكونوا بالضرورة صناع القرار الأساسيين. كما أن سياسة إدارة ترامب بخصوص «5 جي» تفتقر إلى الانسجام والتماسك.
وقد كان زميلي في «واشنطن بوست» جوش روجن على حق عندما كتب أن (المشكلة الجوهرية هي أن البلدان الغربية ليس لديها بديل حقيقي لـ«هواوي» – وأن عروض «هواوي» المدعومة بشكل كبير جد مغرية حتى تُرفض في غياب خيار تنافسي). وبالفعل، فعندما سأل الرئيس الإستوني السابق توماس هندريك إلفس الوزيرَ «إسبر» بشكل صريح حول ما تعرضه الولايات المتحدة على الأوروبيين كبديل لـ«هواوي» بخصوص «5 جي»، كانت ثمة تصفيقات قوية من الأوروبيين بين الحضور. واعترف «إسبر» بأنه سؤال جيد، ولكنه لم يقدم سوى كلام خشبي ضمن جوابه.
بيد أنه كان لافتاً إلى أي حد كان المسؤولون في الولايات المتحدة وأوروبا يرغبون في الاتفاق حول التهديد. وسيكون من المثير للاهتمام رؤية ما إن كانت الصين ستواصل مزاحمة الشعبوية في المحافل والمنتديات المقبلة.
ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس»