الجميع تقريباً معجبون بالنموذج الشمالي. فدول مثل السويد والنرويج وفنلندا تتمتع بإنتاجية اقتصادية مرتفعة ومساواة اجتماعية مرتفعة وثقة اجتماعية عالية ومستويات مرتفعة من السعادة الشخصية. ويرى التقدميون أن هذا بسبب سخاء البرامج الاجتماعية التي ترعاها الدولة. وبعض أنصار التوجه الليبرالي يشيرون إلى أن هذه الدول حققت درجات عالية في كل معيار تقريبا في انفتاح الأسواق الحرة. أما دعاة تقييد الهجرة فيشيرون إلى أنه حتى وقت قريب كانت هذه المجتمعات متجانسة عرقيا.
لكن الدول الشمالية كانت متجانسة عرقياً في عام 1800 ورغم هذا كانت فقيرة للغاية. ونموها الاقتصادي لم يصعد إلا بعد عام 1870 قبل فترة طويلة من إقامة دول الرعاية الاجتماعية. وما دشن حقاً الدول الشمالية هو تتابع أجيال من السياسة التعليمية الرائعة. فقد قامت النخب الشمالية في القرن التاسع عشر بشيء لم نستطع القيام به في الولايات المتحدة في الآونة الحديثة. وأدركوا أنه إذا كان للدول أن تنتعش فيتعين عليها أن تخلق حقا «مدارس شعبية» ناجحة لأقل الأشخاص تعليما بينهم. وأدركوا أنه يتعين عليهم جعل التعلم مدى الحياة جزءا من النسيج الطبيعي للمجتمع.
لقد نظروا إلى التعليم بشكل مختلف عن نظرتنا. والكلمة الألمانية التي استخدموها لوصف النهج الذي اتبعوه وهي «بيلدونج» لا مقابل لها في الانجليزية. إنها تعني تحول أدبي ووجداني وعقلي ومدني كامل للشخص. وقامت على فكرة أن الناس إذا أرادوا التعامل مع مجتمع صناعي ناشئ والمشاركة فيه، فهم في حاجة إلى حياة داخلية أكثر تعقيدا. واليوم يعتقد الأميركيون غالباً أن التعليم يمثل عملية تحول إلى مجموعة من المهارات المتخصصة، أي أن يستطيع الطالب القراءة وإجراء الحسابات والإلمام بحقائق علم الإحياء. لكن كلمة «بيلدونج» يراد بها تغيير الطريقة التي يرى بها الطلاب العالم ومساعدتهم على فهم الأنظمة المعقدة ورؤية العلاقات بين الذات والمجتمع ومجموعة العلاقات في الأسرة والمدينة.
فقد كتبت المؤلفة الدنمركية «ليني ريتشل اندرسون» والكاتب السويدي «توماس بيوركمان» في كتابهما الذي يحمل عنوان «السر الشمالي» يقولان إن «بيلدونج هي الطريقة التي ينضج بها الفرد ويضطلع من خلالها بمسؤولية شخصية أكبر تجاه الأسرة والأصدقاء وأبناء وطنه والمجتمع والبشرية وكوكبنا والميراث العالمي لجنسنا مع الاستمتاع بحريات شخصية وأدبية ووجودية تتزايد دوما». وعمل المعلمون الشماليون بجد كي يصقلوا إحساس كل طالب بصلته بالأمة. فقبل القرن التاسع عشر، كان معظم الأوروبيون ينسبون أنفسهم إلى مناطق محلية وليس لأمم معينة. لكن مقررات التعليم الشمالية غرست في الطلاب الاعتزاز بالتاريخ والتراث الشعبي لكل دولة قومية.
واستهدفت المقررات خلق شعور في عقول الطلاب بدوائر أوسع من الانتماء من الأسرة إلى المدينة إلى الأمة مع حرص على الاضطلاع بمسؤولية مشتركة تجاه الكل. وعمل المعلمون الشماليون أيضا بجد كي يطوروا وعي الطلاب بذواتهم. لقد ساعدوا الطلاب على رؤية العوامل التي تختلج بداخلهم من المشاعر والشهوات والجروح والرغائب. وإذا استطاع المرء رؤية هذه القوى والتفاعل بينها، كما لو أنها خارجها، لاستطاع أن يكون سيدها وليس عبدها.
وكان حدسهم يحدثهم بأن الناس مع نموهم، تنمو لديهم القدرة على المرور بمراحل نمو يرون فيها أنفسهم والعالم من خلال عدسات تتزايد تعقيدا دوما. فقد يطيع طفل صغير السلطة بشكل أعمى مثل الأم والأب والمعلم. ثم يتمثل أعراف الجماعة ويتواءم معها. ثم يتعلم كيفية خلق أعرافه الخاصة بناء على قيمه. ويتعلم كيف يرى نفسه كعقدة في شبكة من النفوس ويتعلم التفكير التبادلي والكلي. وغرض «بيلدونج» هو مساعدة الناس على المرور عبر التحولات غير المريحة بين كل طريقة في الرؤية.
وهذا المسعى التعليمي له فيما يبدو تأثير مستدام على الثقافة. فسواء كان المرء في استوكهولم أو مينابوليس، سيجد أن لدى الاسكندنافيين ميل إلى المزاح بشأن الطريقة التي يزعجهم بها شعورهم بالمسؤولية. ولديهم أقل معدلات من الفساد في العالم. ولديهم شعور متميز بالعلاقة بين حرية الفرد والمسؤولية المجتمعية. والثقة الاجتماعية المرتفعة لا تتحقق فحسب بل تتمخض عن نتائج تجعل الأفراد مسؤولين تلقائيا عن بعضهم البعض في التعاملات اليومية في الحياة، حين تعمل مؤسسات المجتمع بشكل جيد.
أما في الولايات المتحدة، فالثقة الاجتماعية في تراجع منذ عقود. فإذا كان الأطفال الأغنياء يذهبون إلى أفضل المدارس، فلن يكون هناك الكثير من التعاطف الاجتماعي المتبادل. وإذا لم تغرس هذه المدارس حبا للأمة، فلن يكون هناك الكثير من المسؤولية المشتركة. وإذا كان لدينا نظام تعليمي ضعيف لا يساعد الطلاب على رؤية شبكات المعنى بين الناس، فلن يساعد هذا الطلاب على معرفة طريقة للرؤية وسينتهي بنا الحال إلى مجتمع لا يستطيع فيه الناس الرؤية من خلال عدسات الآخرين. وحين ينظر المرء إلى نموذج «بيلدونج» الشمالي، سيدرك أن مشكلتنا ليست أننا لا ندرب الناس على اكتساب المهارات الملائمة للوظائف بل لأنه ليس لدينا نموذج تنمية صحيح ممتد عبر الحياة لغرس نمط الوعي الذي يحتاجه الناس للازدهار في مجتمع تعددي معقد.
ينشر بترتيب خاص مع خدمة «نيويورك تايمز»

Canonical URL
https://www.nytimes.com/2020/02/13/opinion/scandinavia-education.html