هل ما زال الشعب يحتاج إلى النخب، أو ما زال يثق بهم؟ سؤال قديم منذ أفلاطون وسقراط وبرودوم (القرن التاسع عشر) ومونتسكيو (القرن الثامن عشر) وروسو (الثامن عشر)، وصولاً إلى جان جاك روسو وميشال أونفري، مروراً بجان بول سارتر وألبير كامو ومجمل الأحزاب اليمينية والثورية والفوضوية والديمقراطية والأوليغارشية، ما زال السؤال ملحاً اليوم، لأن ما نعيشه من ثورات وانتفاضات وانقلابات وظواهر شعبية وشعبوية واقتصادية، كأنما تداخل غامض بين هذه الموروثات الثورية، أو الثورية المضادة في عالمنا العربي، وفي أوروبا وأفريقيا والولايات المتحدة.
في فرنسا نقمة على نخبوية «ماكرون»، من خلال الفشل الحزبي الفرنسي أمام حركات فقدت ثقتها بالطبقة الحاكمة من دون الإشارة إلى بدائل واضحة، والحال ذاتها في أميركا عندما انتصر ترامب على النخبة السائدة بقوة جماهير لا تحركها أفكار معينة أو أيديولوجيا سائدة، بل غضبها من نخب سياسية متصلة بطرق الحكم المؤسسية والاقتصادية المعولمة.
وما جرى في بريطانيا، وخروجها بطريقة الاستفتاء من الاتحاد الأوروبي، لا يختلف كثيراً عن الانتقال من الديمقراطية البرلمانية إلى الديمقراطية المباشرة، وهذا ما حدث في المجر وبولندا واليونان وإيطاليا، هناك ثورة على الثورات التنويرية والحداثية بمفاهيمها الثقافية النخبوية، بمعنى قيادة النخب التاريخية للمسارات الشعبية، ضمن معطيات وافدة من الثورات الأميركية والبريطانية والفرنسية في القرنين الماضيين.
قد يكون الأمر مختلفاً في العالم العربي، وما يسمى «الربيع العربي» الممتد منذ 2011 وحتى الآن من سوريا إلى مصر وليبيا واليمن والعراق، فليس عندنا لا بوريس جونسون ولا فيكتور أوربان ولا ترامب ولا ماكرون، لا نخب في الرؤيا سواء كانت ثقافية (كتاباً، شعراء، اقتصاديين، فلاسفة)، لكن في اتجاه مضاد لما يحدث عموماً في أوروبا وسواها: فهناك ارتداد على الديمقراطية، في أوروبا (ما عدنا نحتاج إليها)، أي الإرث التاريخي، لكن في الانتفاضات العربية يوجد تمسك بها إلى حد الاستشهاد من أجلها، كأن الشعب صار هو النخبة في وجه الديكتاتوريات السائدة، يوجه نفسه بنفسه سواء بمشاعره أو بمتطلباته وبحاجاته وبأحواله المعيشية، أو بتمرده على الطبقة العسكرية والحزبية والسياسية والمذهبية.
والتطورات في المنطقة العربية تحمل إرادة التحرر والتحرير، التحرر من النخب المسيطرة، والتحرر من القوى الخارجية التي تتحكم به (العراق، اليمن، ليبيا، ولبنان)، وهذا بالذات ما يجعل الأمور أكثر تعقيداً عليه، وأصعب منالاً وأبهظ ثمناً، فما يحدث في لبنان مثلاً مزدوج: التخلص من السلطة الفاسدة، لكن أيضاً التخلص من هيمنة الوصايات والاحتلالات الخارجية، وهنا بالذات نلمس التناقض بين الحركة الشعبية اللبنانية، والنخب السياسية الطائفية والاقتصادية وحتى الثقافية المعزولة، إما بارتباطاتها الحزبية، وإما لغربتها عما يحصل، أو لعزوفها عن المشاركة، أو التواطؤ مع القوى القائمة، إنه المثقف التقليدي الذي اعتاد مهادنة أصحاب الشأن والنفوذ والمال، ولهذا نرى غياب كل قيادة نخبوية للحراك في لبنان، الذي فقد الثقة بمجمل الظواهر المهيمنة، وصار الحراكيون ينشطون بحاجاتهم وأحداسهم، ومعاناتهم لبناء هوية أخرى غير التي ورثوها من آبائهم، لكن برغم ذلك يطالبون بحكومة تكنوقراطية مستقلة (أي نخبوية)، لكن كمرحلة انتقالية بتأسيس واقع جديد عبر تغيير قانون الانتخاب.
ونظن أن رفضهم تعيين قيادة لهم، يحمل أيضاً مخاطر الفوضى والأخطاء، مما يؤثر على استمرارهم وفاعليتهم، ونظن أن غياب النخب مشكلة، وترك الأمور من دون قيادة مشكلة أخرى، لهذا يجب حلهما بالتوفيق بين الاتجاهين.