قبل بضعة أيام، دار بيني وبين أحد الزملاء الأكاديميين، بإحدى الجامعات في دول الخليج، محادثة هاتفية عن الصعوبات التي يواجهها الأكاديميون في نشر الكتب في دور نشر الغربية وتحديداً الأميركية، وقد تفاجأت من الذي حدث له مع واحدة من أكبر دور النشر في نيويورك، فبعد الاضطلاع ومراجعة كتابه، تمت الموافقة على نشر الكتاب بكل ترحاب، شاكرين أسلوبه القيم وبحثه العميق، وقد كان كتابه عن «الحداثة في إيران في القرن التاسع عشر»، ومن ثم تلقى رسالة إلكترونية جديدة من نفس دار النشر، ذكرت بها أنه لا بد من مراجعة الكتاب مرة أخرى، وبعد عدة أسابيع، جاء الرد برفض الكتاب، لأنه مليء بالمعلومات المغلوطة ولغته لا تصلح حتى لطالب إعدادية، وقد اكتشف الأستاذ الأكاديمي لاحقاً أن من راجع كتابه مؤخراً إيراني «يساري» موالي للنظام الإيراني، فهذه النوعيات أصبحت تملأ دور النشر في الولايات المتحدة على حد ذكره.
بعد الذي حدث مع الزميل الأكاديمي، هل يمكننا أن نقول إنه يمكن الضغط على المحررين والمدققين, لإلغاء كتب معينة لا تتفق مع الأيدلوجيات اليسارية، التي غالباً ما تكون داعمة للإسلام السياسي في الشرق الأوسط؟ هل صناعة النشر في الدول الغربية أصبحت لها معايير مزدوجة تميز بين «اليمين» و«اليسار»؟
للأسف الشديد، فقدت الأوساط الأكاديمية تنوعها السياسي في السنوات الخمسين الماضية، وأصبحت الآن أسوأ، بعد سيطرة اليسار بشكل أكبر على المجال الأكاديمي، حيث تبلغ نسبة الليبراليين (الذين غالبهم الآن يساريين) إلى المحافظين في الجامعات الأميركية حوالي 267:1. قد تكون النسبة الحقيقية غير ذلك، نظراً لأن العديد من المحافظين الأكاديميين يخشون أن يكشفوا عن هويتهم السياسية لزملائهم في العمل، الذين معظمهم من اليسار، فهؤلاء الأكاديميون اليساريون يتشاركون بنفس وجهات النظر السياسية، وهذا من شأنه أن يقتل المنافسة والتنوع لتحقيق نتائج أفضل.
التسييس عامل خطير عندما يدخل المجال الأكاديمي والبحوث، ويبدو أن هذا الأمر منتشر ليس فقط في الجامعات الغربية، وبخاصة الأميركية، بل بين الناشرين أيضاً، أصبح النشر غالباً معتمداً على العلاقات، وعلى أساسه يكون التقييم الذي يضمن الترقيات والمناصب، فالمحرر يرسل الورقة البحثية إلى مراجعين، يعتقد أنهم يعرفون شيئاً ما عن الموضوع، إذا وافق المراجعون على النشر، يوافق المحرر وإذا رفضوا يتم رفض نشر الورقة البحثية أو الكتاب، لكن إذا أحد المراجعين لم يوافق على النشر، يقوم المحرر بإرسالها إلى مراجع آخر، ويفعل هو ما يشاء.
من الواضح أيضاً، أن الناشرين «اليساريين» لهم مبدأ الاتحاد معاً، بدلاً من التنافس والتنوع، فمبيعات الكتب بالنسبة لهم ليست غاية، ولكنها وسيلة لنشر معتقداتهم السياسية، فهم يضعون السياسة أولاً، فأيدلوجيتهم هي العمل معاً لدعم جميع كتبهم والمفاهيم الواردة فيها، لأن هذا الذي يساعد على اجتياز المسار الطويل، لأجل أهداف كبيرة صعب تحقيقها فرادى.
كل هذه الحقائق جعلت زميلي الأكاديمي، يشعر بالإحباط من دور النشر الأميركية، وكانت نصيحته لي أن أحد الحلول للنشر بأميركا، خاصة في مواضيع تخص الشؤون السياسية للشرق الأوسط، البحث عن نفس دور النشر، التي ينشر بها إعلاميو محطة «فوكس نيوز» والمسؤولون في الإدارة الأميركية الحالية، ومن أهم ما يقوم به الرئيس ترامب حالياً، هو إصدار أمر تنفيذي يطلب من الناشرين منح حرية الوصول الفوري لجميع المقالات البحثية الممولة من الحكومة الفيدرالية، فهذا القرار لو طُبق لن يحد فقط من نفوذ الناشرين المالي على المجلات المرموقة، من خلال فرض رسوم ضخمة، مما يقوض وصول المستخدم إلى البحوث، بل أيضاً بإمكانه أن يقيد سيطرتهم الفكرية على البحوث.
*باحثة سعودية في الإعلام السياسي