كثر تكرار اسم ابن خلدون وعرض نظرياته حول أخطاء المؤرخين، وكيفية كتابة التاريخ، وفي أثر الجغرافيا على التاريخ، وفي التقابل بين البداوة والحضارة، وقوانين التحول ومظاهر العمران، وفي نشأة المدن والهياكل الحضرية، ومظاهر الآداب والفنون، وفي أسباب الانهيار، وعمر الدورات التاريخية وتواليها في شكل حلزوني، إذ ما من دورة تبدأ من الصفر نظراً لتراكم الخبرات التاريخية.
وكثرت الرسائل الجامعية حول ابن خلدون، لاسيما في موضوعات العصبية والدولة، وفلسفة التاريخ، وكثرت المؤتمرات في ذكرى ميلاده وفي ذكرى وفاته كذلك. وتراوحت الدراسات حول ابن خلدون بين العرض والقراءة والتأويل، وعرض ابن خلدون كما هو عليه باسم الموضوعية والتاريخية، وإعادة قراءته لمعرفة المسكوت عنه واللامفكر فيه، أو تأويله تأويلا جديداً. لقد اختلف العصر وتغير العمران، مما يستدعي تأويلا جديداً لنظريات ابن خلدون طبقاً لظروف هذا العصر، ثم زيارة ابن خلدون مرة أخرى لعله يستطيع الإجابة على بعض أسئلة عصرنا الحالي.
لقد اعتبره المغرب العربي مفكره الأصيل، فهو الذي تحدث عن «المخزن»، وهو الذي قارن تاريخ العرب بتاريخ البربر، فالحضارة العربية الإسلامية ليست من صنع العرب وحدهم، بل ساهمت فيها كل الشعوب والأقوام، الترك والفرس والبربر، وكل شعوب آسيا وأفريقيا. كما يساهم فيها اليوم المتحولون الجدد إلى الإسلام في أوروبا والأميركيتين وأستراليا.
وكلما أحسسنا بالنقص تجاه عقلانية الغرب وماديته، ذكرنا ابن رشد وابن خلدون، وذكرهما المستشرقون معنا. نلوذ بهما ضد سيادة الاتجاهات الإيمانية والخرافية، ونتحسر على انقطاعهما في حياتنا المعاصرة، ونحسد الغرب على استمرارهما فيه، بينما تخلفْنا نحن لبقائنا في عصره الوسيط، وتقدم هو لاستعارته حداثتنا القديمة.
نحن بحاجة إلى تطوير منهج القراءة والتأويل بإعادة بناء ابن خلدون طبقاً لحاجات العصر ومراجعة أحكامه على الحضارة العربية الإسلامية، وعلى طبائع الشعوب والأقوام، ونقله من الماضي إلى المستقبل. فقد انقضت سبعة قرون على ابن خلدون واستمر التاريخ بعد وفاته. فلماذا لا تؤخذ هذه الفترة الزمنية الطويلة في الاعتبار، كما أخذ ابن خلدون القرون السبعة الأولى للإسلام موضوعاً للدراسة؟ كان من الطبيعي أن يظهر ابن خلدون بعد أن اكتملت الدورة الأولى للحضارة الإسلامية على مدى سبعة قرون، النشأة والتدوين في القرون الثلاثة الأولى، ثم الازدهار والذروة في القرنين الرابع والخامس، ثم الاكتمال والنهاية في القرنين السادس والسابع. ثم ظهر ابن خلدون على نحو طبيعي في القرن الثامن ليؤرخ لهذه الفترة الأولى، إذ يظهر الوعي التاريخي باكتمال التاريخ وفي نهاية الدورة.
ومرت سبعة قرون أخرى بعد ابن خلدون، من القرن الثامن حتى القرن الخامس عشر. وتغيرت الظروف والأحوال. وانتقلت الحضارة العربية الإسلامية من المرحلة الأولى (مرحلة الإبداع) إلى المرحلة الثانية (مرحلة النقل)، من التدوين الأول إلى التدوين الثاني، من عصر النصوص والمتون إلى عصر الشروح والملخصات، من الأعمال العلمية الفردية إلى الموسوعات والمعاجم ودوائر المعارف خوفاً على الحضارة من الضياع بعد الغارات على العالم الإسلامي من الشرق (التتار والمغول) ومن الغرب (الاستعمار الأوروبي)، ومن الريادة إلى التبعية. فلماذا لا توضع هذه القرون السبعة التالية لابن خلدون مع القرون السبعة الأولى قبله، لكتابة تاريخ شامل للحضارة العربية الإسلامية في فترتيها (الأولى والثانية).
وإذا كانت القرون السبعة التالية قد اكتملت أو أوشكت على الاكتمال، فأين «ابن خلدون الجديد» (ابن خلدون الثاني) الذي يضع شروط النهضة كما وضع ابن خلدون الأول أسباب الانهيار؟ وإذا بُعث ابن خلدون الأول اليوم، فكيف يكمل مقدمته ويضيف إليها قروناً سبعة تالية، سواء بنفس المنهج ونفس النتائج أم بمنهج جديد ونتائج مختلفة؟

*أستاذ الفلسفة -جامعة القاهرة