لم يسبق للأخبار القادمة من العاصمة السودانية، أن تسببت في إثارة مشاعر الخوف لدى البعض في المنطقة منذ يناير 1885، عندما سيطرت قوات محمد أحمد المهدي على الخرطوم. فآنذاك، كان الأمر يتعلق باحتمال، وإن كان ضئيلاً، للخضوع للمحاسبة من قبل زعيم يعتبر نفسه «المهدي المنتظر»، والآن، يتعلق الأمر بإمكانية ملموسة أكثر لمواجهة العدالة أمام المحكمة الجنائية الدولية، فقد أعلنت الحكومة السودانية أنها تعتزم تسليم الرئيس السابق عمر البشير إلى المحكمة الجنائية الدولية، ليحاكم في عشر تهم كبرى؛ ثلاث منها تتصل بجرائم الإبادة الجماعية، وخمس بجرائم ضد الإنسانية، وتهمتان تتعلقان بجرائم حرب.. وذلك لمسؤوليته عن القمع العنيف، الذي تعرض له إقليم دارفور، عقب تمرد بدأ هناك في عام 2003.
لقد أصدرت المحكمة الجنائية الدولية التهم قبل عقد من الزمن، وكانت المرة الأولى التي توجه فيها تهماً بالإبادة الجماعية إلى مشتبه فيه، وحينها بدا مثول البشير أمام المحكمة أمراً غير محتمل، وحتى قبل عام من الآن، كانت مكانة البشير كزعيم للسودان محصِّنة له، إذ كان يحظى بالدعم الصريح أو الضمني من رؤساء دول عديدة، ورغم أنه ظل بعيداً عن العواصم الغربية، فإن البشير كان قادراً على زيارة بلدان أخرى من دون خوف من التوقيف، فقبل عامين، مثلاً، كان مرحَّباً به في روسيا، من أجل حضور كأس العالم في كرة القدم، لكن الحصانة انتهت عندما أطيح به العام الماضي، بعد احتجاجات شعبية دامت عدة أسابيع.
اللجنة العسكرية التي تولت الحكم في البلاد، رفضت في البداية الدعوات الأولى لإرسال البشير إلى لاهاي، وبدلاً من ذلك أعلنته محكمةٌ سودانية مذنباً بالفساد، وحكمت عليه بعامين في منشأة لإعادة التأهيل، لكن هذه النتيجة لم تكن لترضي المحتجين أبداً، ناهيك عن سكان دارفور. وظلت هناك تخوفات من أن يُعاقَب البشير عقوبةً خفيفة، على غرار قادة آخرين مطاح بهم في احتجاجات مشابهة، بدلاً من تلقي عقوبة الإعدام مثل الرئيس العراقي صدام حسين.
مجلس الحكم الانتقالي، المؤلف من قادة عسكريين ومدنيين، والذي يدير الآن دفة الحكم في الخرطوم، واجه ضغوطاً من المحتجين، لتوجيه تهم أكثر جدية ضد البشير، لكن كثيرين في المؤسسة الرسمية معيّنون من قبله، لهذا فقد ظلت ولاءاتهم محل شك، ولذلك كله، فإن تسليم البشير إلى المحكمة الجنائية الدولية قد يكون رهاناً مناسباً.
القادة السياسيون للاحتجاج الذي أطاح بالبشير، قالوا إنهم لا يعارضون محاكمته في لاهاي، كما كانت ثمة تكهنات حول إمكانية إقناع المحكمة الجنائية الدولية بإجراء المحاكمة في السودان. لكن لا شيء من هذا قد تم تأكيده حتى الآن؛ فالمحكمة الجنائية الدولية تقول إنها لم تتلق أي تأكيد من الخرطوم بتسليم البشير إليها، ومحامي الرئيس السابق يقول عنه إنه لن يتعاون مع المحكمة، وفي الأثناء، اتفقت السلطات الانتقالية والمتمردون على إنشاء محكمة سودانية خاصة بجرائم دارفور، غير أنه من غير الواضح ما إن كانت ستحصل على حق الأولوية في محاكمة البشير، كما أن السلطة الانتقالية لم تقرر بعد متابعته عن الجرائم الأخرى المرتكبة خلال ثلاثين عاماً من حكمه، مما سيبقيه في السودان لأشهر، بل وحتى لسنوات، ثم إن هناك إمكانية عمل دفاعي من قبل أنصار البشير في الأجهزة الرسمية، وبعض المنظمات الإسلامية التي دعمها أثناء وجوده في السلطة، ونظراً لأن التوازن السياسي السائد في الخرطوم بين القادة العسكريين والسياسيين المدنيين دقيق، فإن هؤلاء الأخيرين قد يوافقوا على حل يُبقي على البشير بعيداً عن المحكمة الجنائية الدولية، مقابل إصلاحات سياسية أسرع.
ولا شك في أن السودانيين سيراقبون باهتمام، كيف ستنحو تلك الأمور كلها، كما سيتابعها من بعيد قادةٌ آخرون، وشعوب ذات أوضاع مشابهة.

*محلل سياسي أميركي
ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس»