على نحو مفاجئ، رحبت وزارة الخارجية الفرنسية بخطة الرئيس الأميركي دونالد ترامب للسلام في النزاع الإسرائيلي- الفلسطيني، والتي يبدو أنها قد تلحق الضرر بـ«حل الدولتين» الذي تدافع عنه فرنسا.
كانت فرنسا قد دعمت بقوة إسرائيل، إبان إنشائها، بسبب عقدة الذنب بخصوص الهولوكوست والتواطؤ المخزي لنظام فيشي.
وعلاوة على ذلك، كانت فرنسا في خمسينيات القرن الماضي، ترى في إسرائيل شريكاً لمواجهة «القومية العربية»، (كانت حرب الجزائر قد بدأت). وفي 1956، تحالفت فرنسا والمملكة المتحدة وإسرائيل من أجل مهاجمة مصر التي كانت قد قامت بتأميم قناة السويس للتو.
ديجول وصل إلى السلطة واستمر في نسج علاقات جيدة مع إسرائيل، محذراً إياها في الوقت نفسه: «إذا تعرضت إسرائيل لهجوم، فإننا سندعم إسرائيل، ولكننا نحذرها من شن أعمال عدائية». وبعد حرب 1967، أعلن ديجول حظراً على الأسلحة في اتجاه الشرق الأوسط – وكانت فرنسا لا تبيع السلاح إلا لإسرائيل آنذاك - إيذاناً بنهاية التحالف الاستراتيجي الوثيق جداً بين فرنسا وإسرائيل.
وكان ديجول قد تنبأ بعواقب النزاع. فخلال مؤتمر صحفي في 1967، قال الرئيس الفرنسي: «الآن تنظم إسرائيل في الأراضي التي أخذتها (في الحرب) احتلالاً لا يمكن أن يقوم إلا على القمع والاضطهاد والطرد، وإن ظهرت أي مقاومة فإنها ستصفها بالإرهاب».
وعندما غادر ديجول السلطة، كانت إسرائيل تأمل في تحسين علاقاتها مع فرنسا، ولكن جورج بومبيدو حافظ على السياسة نفسها، بل إنه ذهب إلى حد بيع أسلحة إلى ليبيا. كما انتُقد جيسكار ديستان أيضاً من قبل إسرائيل ومؤيديها في فرنسا لأنه وقّع إعلان البندقية، الذي دافع عن حق الفلسطينيين في تقرير المصير.
وعندما وصل فرانسوا ميتران إلى السلطة، كان معروفاً عنه أنه قريب جداً من إسرائيل. والحال أنه هو الذي كان في 1982 أول زعيم غربي يدعو إلى قيام دولة فلسطينية في الكنيست، حيث اعتبر أنه ليس أمام الإسرائيليين خيار آخر غير التفاوض مع ياسر عرفات.
ومع اتفاقات أوسلو، آمن الجميع بالسلام. وعندما وصل جاك شيراك إلى السلطة، والذي كان أيضاً يُعتبر صديقاً لإسرائيل، اعترف بمسؤولية الدولة الفرنسية في عهد فيشي عن التواطؤ وترحيل اليهود، في حين أن موقف ديجول وميتران حتى ذاك التاريخ كان هو أن نظام فيشي ليس هو فرنسا.
ثم كانت هناك تلك المشادة الكلامية الشهيرة مع جندي إسرائيلي في القدس الشرقية في 1996، وهو ما أكسب شيراك شعبية كبيرة في كل العالم العربي الذي سر برؤية زعيم غربي يواجه جندياً إسرائيلياً. وكذلك فعل أيضاً رفضه لحرب العراق ودعمه لياسر عرفات.
ولكن في 2004-2005، وخشية حملات تتهمه بمعاداة السامية شنت ضده في الولايات المتحدة، توقف جاك شيراك عن انتقاد إسرائيل.
نيكولا ساركوزي قدّم نفسه على أنه صديق لإسرائيل، وهو ما أكسبه شعبية كبيرة بين اليهود الفرنسيين وفي إسرائيل.
وفرانسوا هولاند، الذي وعد خلال حملة 2012 الانتخابية بالاعتراف بدولة فلسطينية، تراجع عن مثل هذا الإعلان منذ أول خطاب له أمام السفراء الفرنسيين.
أما إيمانويل ماكرون، فقد قرر عدم الاعتراف بالدولة الفلسطينية عندما وصل إلى السلطة في 2017، مذكراً في الوقت نفسه بدعمه لحل الدولتين. ولكنه رفض أي ضغط على إسرائيل.
هذا الغياب لرد فعل حقيقي لوزارة الخارجية الفرنسية وللرئيس ماكرون على خطة ترامب- كوشنر اليوم يمكن أن يفاجئ البعض. غير أن فرنسا لم تعد نشطة في الحقيقة بخصوص النزاع الإسرائيلي- الفلسطيني، في ما يبدو انتصاراً للخوف من أن تتهم بمعاداة السامية، التي تُعد سلاح ردع فعالاً للغاية. غير أن هناك أسباباً أخرى أيضاً مثل الإرهاق والضجر، لأن الجهود المختلفة التي بذلتها فرنسا لم تكن كافية لتحريك الأمور.
إن موقف ديجول وميتران ثم شيراك منح فرنسا مكانة اعتبارية مهمة في العالم، وجعل منها البلد الغربي الذي يتميز عن الآخرين بتبني موقف مؤيد للقانون وبنشاطه ومبادراته بخصوص هذا الموضوع. فقد كانت فرنسا المدافعة عمن لا صوت لهم وكانت لها مواقف ومبادئ في ما يتعلق بصمت البلدان الغربية الأخرى أو نفاقها.
وهذه المكانة وهذه الشعبية - حتى وإن تطلب الأمر مواجهة القوة الأميركية - هما اللتان ربما أخذتا تتبخران اليوم.
*مدير معهد العلاقات الدولية والاستراتيجية في باريس