لن يأتي يوم على البشر لا يتجاوز فيه أي بشر الإشارة الضوئية الحمراء عمداً، فالمدينة الفاضلة التي يتحلى جميع أفرادها بالوعي والمثالية لن توجد ما دمنا بشراً خطّائين، لكن علينا أن نبدأ في القلق إذا ارتفعت الأصوات التي لا تعتبر قطع الإشارة الضوئية انتهاكاً للقانون، وتجاوزاً في حق الآخرين، وتعريضاً لحياتهم للخطر. فثمة فرق كبير بين أن نضعف بين الحين والآخر وتزل أقدامنا، وبين أن نقف في وجه القانون ونتحداه بتصويب ما يراه القانون خطأً، وتخطئة ما يراه القانون صواباً، فلا يعود بعدها القانون فوق الجميع، بل ملقى على الأرض تدوسه الأقدام.
مناسبة هذا الكلام الوقائع المؤسفة التي تحدث في موقع «تويتر»، حيث تُشَن الحملات ضد كل من أتى بفعل لا يتوافق مع عادات بعض فئات المجتمع، أو تفوّه بعبارات غير معهودة في أعرافهم، أو طرح رأياً لم يألفوه، أو اتخذ موقفاً على عكس موقفهم من هذا الأمر أو ذاك.
وكما قلت في البداية، فإن قطع الإشارة الحمراء شيء وعدم اعتبار هذا الفعل مخالفة مرورية جسيمة شيء آخر مختلف تماماً، فهذه الحملات الإلكترونية تلقى تفاعلاً من الكثيرين من جهة، وتجد لها التبريرات تحت هذا العذر أو ذاك من جهة أخرى.
وهكذا تتكرر الحملات وتتسع حتى مع لجوء الضحايا إلى القانون لوقف التجاوزات التي تحدث بحقهم، فهي تستمر من خلال حسابات وهمية يصعب تتبع أصحابها، ويحدث نوع من الإمعان في الأذى والتكالب على الضحية من كل حدب وصوب، حتى يستحيل الفضاء الإلكتروني غابة ينهش فيه الناس بعضهم بعضاً، أو ما يطلق عليه التنمر الإلكتروني.
القانون هو المرجع الذي نحتكم إليه جميعاً ولا شيء سواه، وهو الذي ينظم علاقات بعضنا بالبعض الآخر، لا عادات هذه الفئة، ولا ما ألفته تلك الفئة، ولا ما يعجب هذا، ولا ما يثير حفيظة ذاك، وكل ما لا يجرّمه القانون متاحٌ فعله وقوله، ومَن يتعرض لمن يمارس حريته المتاحة هو مخطئ مهما كانت دوافعه وأعذاره، والخطأ الأكبر هو تصويب خطأ المخطئ.
مَن لا يعتبر الخطأ خطأً ينفي ضمناً الحاجة إلى القوانين أساساً، ليصبح لكل منا قانونه الخاص، فهو يقرر الصواب والخطأ، وهو الذي يصدر الأحكام، وهو الذي ينفذها بيده ولسانه، وهي أشدّ حالات البدائية والهمجية.
الكثير من قيم وعادات المجتمع مرعية في القوانين، بل إن أعراف أي مجتمع وثقافته مصدر من مصادر قوانينه، ومَن يخرج عليها يتعرض للعقاب الذي تفرضه الدولة. ولقد رسم القانون للجمهور الطريق لملاحقة من ينتهك أحكامه، وذلك من خلال الإبلاغ عنه، وليس من خلال التعرّض له بالإساءة والإهانة والتجريح، ومن باب أولى عدم التعرّض لمن يتحرك تحت سقف القانون ولا يتجاوز أحكامه، وعدم اعتبار هذا التعرض الذي يشكّل جريمة أمراً مقبولاً.
إن هذه الحملات تزرع العدوانية في أفراد المجتمع، والدفاع عنها خطر أكبر، لأنه دعوة للهمجية وتطبيق كل إنسان قانونه الذي يحلو له.