وقت‎ كتابة هذه السطور كان الرئيس الأميركي دونالد ترامب، قد ألقى خطاب حالة «الاتحاد»، وسيف العزل مسلط على رقبته، ووقت ظهورها للنور سيكون ترامب قد عبر أزمة الإطاحة به من البيت الأبيض، وذلك بفضل الأغلبية التي يتمتع بها الحزب «الجمهوري». على‎ أن الناظر لما جرى على هامش الخطاب يتضح له أن هناك خللاً جسيماً أصاب الجسد الأميركي، إذ تجاوز الأمر الخلاف السياسي إلى تمزيق النسيج الاجتماعي الأميركي ما تبدى في شكل وأسلوب الاستقبال الخاص بترامب في الكونجرس، إذ جرت العادة أن يقدم رئيس مجلس النواب الرئيس الأميركي ببضع كلمات تحفها الفخامة والتمجيد، غير أن المرة الأخيرة كانت نانسي بيلوسي العدو اللدود لترامب، والتي دفعت بأقصى قدر ممكن قضية العزل تستخدم كلمات جافة لم تتجاوز «أقدم لكم رئيس الولايات المتحدة الأميركية».
‎ بدوره بدا ترامب حانقاً جداً على بيلوسي، إذ حين سلمها نسخة من خطابه لم يتناول يدها الممتدة تجاهه بالسلام والتحية، في منافاة ومجافاة واضحة جداً للاعتبارات الإنسانية قبل البروتوكولية، الأمر الذي أوقعها في صدمة سرعان ما استفاقت منها، غير أنه ما أن انتهى من خطابه إلا وأخذت الأخيرة تمزق على العلن أوراق الخطاب في رسالة لا تخطئ العين معناها ومبناها.
الأمر‎ نفسه انسحب على الأعضاء «الديمقراطيين» الذين رفضوا التصفيق لترامب، ولم يقف
إلا أنصاره من «الجمهورين»، ويمكن لمن شاهد الخطاب أن يحكم على المشهد الانقسامي الأميركي من خلال ملامح ومعالم السخرية التي ارتسمت على وجه «الديمقراطيين» وإيماءات الرأس، وهمهمات الحديث خلال الكلمة، ما يقطع بالشرخ الكبير في الجدار الأميركي العالي.
في‎ خطابه الثالث حول «حالة الاتحاد» حاجج الرئيس ترامب بالكثير من الحقائق التي لا يمكن إنكارها، مشيراً إلى أنه أوفى بوعوده التي قطعها على نفسه في فترة ترشحه للرئاسة الأولى، لا سيما ما يتعلق بجعل أميركا أمة عظيمة مرة أخرى.
‎ على أن الفكرة الأخيرة تحتاج إلى المراجعة، لا سيما وأن التطورات التي جرت على صعيد العلاقات الأميركية الدولية خلال السنوات الثلاث المنقضية، وضعت العصا في الكثير من دواليب الخطوط التقليدية للسياسات الأميركية، وفي المقدمة منها العلاقة مع أوروبا الحليف الاستراتيجي التقليدي، والدخول في مواجهة اقتصادية مع الصين، وعودة عسكرة المشهد الدولي مع روسيا، وإعادة برامج تسليح الفضاء، وغيرها من القضايا الخلافية.
‎ باختصار غير مخل مثلت سنوات الرئيس ترامب صراعاً أيديولوجياً داخلياً بين «أميركتين»، الواقعية والمثالية، وبين النموذجين الشهيرين لأميركا الجيفرسونية وأميركا الويلسنية، عطفاً على أن فكرة الحلم الأميركي قد بدأت تهتز وبعمق لدى الكثير من شعوب العالم، فقد بدا الرجل مسيرته الرئاسية بقرارات تمنع دخول مواطني بعض الدول، ولاحقاً اتخذ قراراً بوقف ما يسمى «سياحة الولادة»، وقبلهما مضى في طريق بناء الجدار العازل مع المكسيك.
والثابت‎ أن المتابع لتيار اليسار الأميركي يلحظ درجة عالية من الانتباه لما يقوم به تيار اليمين الأميركي، والذي يؤمن بنقاء سلالة «الواسب»، أي الرجل الأبيض البروتستانتي من أصول إنجلوساكسونية ، ولهذا فإن كل ما جرى على سطح قضايا الهجرة في الأعوام الثلاثة الماضية يقصد من وراءه عدم الانسياق وراء تغير التوازنات الديموغرافية في الداخل الأميركي، وبحيث لا يصحو الرجل الأبيض من نومه يوماً ما في العقود القادمة ليجد نفسه أقلية وسط طوفان بشري من شعوب آسيوية أو لاتينية مغايرة، تعيد التركيبة السكانية الأميركية التي خلقها المهاجرون الأوربيون في القرنين السادس والسابع عشر.
لا‎ ينكر أحد على الرئيس ترامب أنه وخلال السنوات الثلاث الماضية قد استرد بالفعل أميركا من المستنقع الذي خلفها فيه سلفه باراك أوباما، لا سيما تحالفاته المشبوهة في الشرق الأوسط والخليج العربي بنوع خاص، فقد مثل بالفعل حصان طروادة لجماعة الإسلام السياسي في الشرق الأوسط، كما يسر الاتفاق سيئ السمعة مع الإيرانيين.
‎ يحسب للرئيس ترامب كذلك أنه الرجل الذي وصلت البطالة في عهده إلى أدني درجة خلال الخمسين سنة الماضية، كما ازدهرت الأسواق المالية والبورصة الأميركية في سنوات حكمه، ووصلت المحروقات إلى أدنى سعر لها.. وهذا كله له مردود إيجابي على المواطن الأميركي الذي يهمه الوضاع الداخلي بأكثر من أي شعارات أو معارك سياسية خارجية .
لكن‎ أحداً لا ينكر أن بعض تغريدات ترامب كفيلة بإحداث شق في صدر المجتمع الأميركي، فعلى سبيل المثال غرد يوم 29 سبتمبر الماضي، وقبيل بدء جلسات مجلس النواب بالقول :«في حال نجح الديمقراطيون بعزل الرئيس ... سنشهد اندلاع حرب أهلية من شأنها تقسيم بلادنا. لن نستطيع التغلب عليها»، ما ولد ردة فعل عند جماعة حراس القسم التي تضم نحو 24 ألف عنصر أبلغت أعضاءها المسلحين بالاستعداد لمعركة حامية الوطيس إذا عزل الرئيس.
ربما‎ يحتاج الاتحاد الأميركي إلى مراجعة أوراقه في الداخل للتأكد من سلامة بنيانه الاجتماعي الأهم من الاقتصادي والسياسي في الوقت الحاضر.
*كاتب مصري