يبدو أن فك عالمنا المتشابك والمترابط جداً أصعب بكثير مما كان يتوقعه أنصار السياسة الوطنية. هذه هي الرسالة التي أخذت تنبثق خلال الأيام الأخيرة، مما يمكن أن نسميه مثلث التوتر. فبريطانيا، العالقة وسط تنافس على الهيمنة العالمية بين القوتين العظميين الصين والولايات المتحدة، أخذت منذ الآن تجد صعوبة في شق طريقها خارج الاتحاد الأوروبي.
المشاكل الرئيسية للخلاف تتعلق بالتجارة والتكنولوجيا. ولكنها صعدت إلى الواجهة على خلفية تذكير قوي آخر بمدى الترابط العالمي: تنامي المخاوف في الولايات المتحدة وبريطانيا وبلدان أخرى بخصوص فيروس امتد وانتشر من مدينة ووهان في جنوب غرب الصين، على بعد آلاف الأميال.
توقيت التوتر الاقتصادي الثلاثي دراماتيكي. فبريطانيا، عقب الانتصار الكبير لرئيس الوزراء المحافظ بوريس جونسون في الانتخابات، أكملت إجراءات ما وصفه هذا الأخير بأنه عمل تاريخي لاستعادة السيادة الوطنية. ويوم الجمعة الماضي، وبعد قرابة نصف قرن، أنهت بريطانيا عضويتها في الاتحاد الأوروبي.
الوعد الذي يقدمه جونسون هو أن السعر الاقتصادي المدفوع من أجل مغادرة أكبر تكتل تجاري في العالم – وأكبر شريك تجاري لبريطانيا – سيكون مؤقتاً. ذلك أنه بعد تحررها من قيود الاتحاد الأوروبي، ستصبح بريطانيا قادرة على إقامة علاقات جديدة مع شريكيها التجاريين الرئيسيين الآخرين الولايات المتحدة والصين، كما يعتقد القائلون بهذا الرأي.
بيد أنه ظهرت منذ الآن بعض المؤشرات الأولية على مدى صعوبة وتعقيد هذا التحول، رغم العلاقة الشخصية الدافئة التي تربط جونسون بالرئيس الأميركي دونالد ترامب.
وبالفعل، فهناك توترات جديدة أخذت تصم التحالف التاريخي الوثيق العابر للأطلسي في وقت تتكيف فيه كل من بريطانيا والولايات المتحدة مع القوة الاقتصادية المتنامية للصين، التي تربط البلدين بها علاقات تجارية واقتصادية مهمة.
فأواخر الشهر الماضي، شهد منتدى دافوس الاقتصادي سجالاً صريحاً غير معهود بين واشنطن ولندن.
وإحدى المشكلات كانت اعتزام بريطانيا فرض ضريبة 2 في المئة على مبيعات شركات التكنولوجيا في المملكة المتحدة مثل جوجل وفيسبوك وآبل، خطوة وصفها وزير الخزانة الأميركي ستيفن منوتشن بـ«التعسفية»، محذراً من أن مثل هذه الضريبة يمكن أن تؤدي إلى خطوة مماثلة ضد صادرات السيارات البريطانية.
ولكن الخلاف الرئيسي كان يتعلق بالصين، واستعداد بريطانيا السماح لشركة هواوي الصينية لعب دور في إنشاء شبكة اتصالات من الجيل الخامس، رغم جهود مكثفة من الولايات المتحدة لحظر الشركة بدعوى أنها تطرح تهديداً أمنياً.
والواقع أنه بخصوص الضريبة التكنولوجية، قد تتراجع بريطانيا عن هذه الخطوة. ففرنسا، التي هددتها الولايات المتحدة أيضاً بخطوات انتقامية، أرجأت ضريبة مماثلة حتى نهاية العام على الأقل. ولكن مشكلة هواوي يمكن أن تكون أكثر استعصاء على الحل. ذلك أنها توجد في صلب التنافس الجيوسياسي الرئيسي للقرن الجديد: المعركة بين الولايات المتحدة والصين على الهيمنة السياسية والاقتصادية، وربما الأهم من ذلك كله، التكنولوجية.
القوتان العظميان تمكنتا مؤخراً من التوصل لاتفاق «المرحلة الأولى» لنزع التصعيد في حربهما التجارية، حيث اتفقتا على تقليص بعض الرسوم الجمركية الانتقامية والإحجام عن فرض رسوم جمركية جديدة. ولكن تخوفات واشنطن الرئيسية بخصوص سياسات الصين الاقتصادية والتجارية، مثل دعم الدولة للشركات الصينية الكبرى، تظل من دون حل. وعلى الصعيد التكنولوجي، تعد مشكلة هواوي الأكثر أهمية وإلحاحاً.
من وجهة النظر الصينية، الدعوة لإقصاء هواوي لا تعدو كونها سياسة حمائية، ومحاولة لمساعدة الشركات الأميركية والغربية الأخرى على تحدي الريادة العالمية التي تتبوؤها هواوي، بوصفها شركة تستطيع إنشاء البنية التحتية الخاصة بشبكة الجيل الخامس، بشكل أسرع وكلفة أرخص من منافسيها، مثل الفنلندية «نوكيا» والأميركية «سيسكو». وبالمقابل، تقول واشنطن إن المشكلة الأساسية هي الأمن.
وهناك تخوف من أن يتيح منح هواوي دوراً في مشروع بناء شبكة الاتصالات للجيل الخامس إمكانية التسلل إلى أنظمة معلوماتية وتكنولوجية حساسة والتلاعب بها في البلدان الغربية.
غير أنه خلال الأيام الأخيرة، اختار جونسون تحدي الضغوط الأميركية القوية من أجل استبعاد هواوي، بشكل كلي، من مشروع شبكة الجيل الخامس في بريطانيا، وإنْ حاول سلك طريق وسطى. ذلك أن نصيب هواوي في المشروع لن يتجاوز سقف الـ35 في المئة. وسيكون دور الشركة بعيد عن البنية التحتية الأساسية، وسينحصر دورها في الجوانب «الخارجية» مثل المحطات الأساسية والهوائيات.
ولكن ذلك لم يرض السيناتور الأميركي توم كوتون (جمهوري)، الذي غرد على تويتر قائلاً: «إن القرار جد مخيب لآمال الأنصار الأميركيين للعلاقة الخاصة بين المملكة المتحدة والولايات المتحدة، مضيفاً: «أخشى أن تكون لندن قد حررت نفسها من بروكسيل من أجل التخلي عن سيادتها لبكين».
هذه الرسالة الحادة تشير إلى الطريق الصعب الذي سيتعين على جونسون السير فيه بين واشنطن وبكين، ذلك أنه لا يريد إغضاب الرئيس ترامب، الذي يعول عليه لجهة الدعم في التوصل لاتفاقية تجارة حرة بين المملكة المتحدة والولايات المتحدة. ولكنه في الوقت نفسه لا يستطيع المجازفة بالإضرار بعلاقات بريطانيا التجارية المهمة على نحو متزايد مع الصين، إذ من شأن ذلك أن يشكل خطراً حقيقياً إن انحاز إلى الولايات المتحدة. واضح أن لعبة توازن صعبة ودقيقة تنتظر جونسون!
ينشر بترتيب خاص مع خدمة «كريستيان ساينس مونيتور»