مثّل القرن العشرين انتصار الاقتصادات المختلطة على التخطيط المركزي، غير أن القرن الحادي والعشرين قد يكون مختلفاً؛ نظراً للتحولات التي عرفتها الاقتصادات المتقدمة. فالدول الشيوعية، مثل الاتحاد السوفييتي السابق والصين في عهد ماو تسي تونغ وكوريا الشمالية.. وغيرها عانت درجات مختلفة من الفشل الاقتصادي وسط سيطرة مركزية صارمة على الاقتصاد. وفي الأثناء، عاشت البلدان التي اعتمدت على التقنين الحكومي وإعادة التوزيع المالي من أجل التنظيم والمراقبة فقط، مثل الولايات المتحدة وفرنسا وألمانيا واليابان وكوريا الجنوبية.. استقراراً سياسياً وارتفاعاً في مستويات المعيشة.
الآن يريد اشتراكيون القيام بمحاولة أخرى. ومع أن حزب العمال بقيادة جيريمي كوربن هُزم في المملكة المتحدة، فثمة تكهنات متزايدة بأن بيرني ساندرز قد يفوز بالترشيح الرئاسي «الديمقراطي»، إن لم يكن بالرئاسة. لكن ساندرز ليس ديمقراطياً اجتماعياً وسطياً، بل اشتراكي حقيقي. وعلاوة على ضرائب على الثروة أعلى من أي شيء سبق لأوروبا أن جربته، تشمل مقترحاته منح العمال ملكية جزئية مهمة والسيطرة على كل الشركات المدرجة في البورصة، وضبط الإيجارات، وإنشاء مساكن عامة، وتأميم قطاع الطاقة، وتمويلا فدرالياً مباشراً لجعل الجامعات مجانية. كما أنه وأنصاره يشيدون بنظام الرعاية الصحية البريطاني المؤمم بالكامل. فهل تفشل اشتراكية ساندرز كما حدث لشيوعية القرن العشرين؟ للتفكير في الجواب على هذا السؤال، ينبغي معرفة لماذا تميل الأسواق إلى الاشتغال أصلاً؟
الواقع أن الاقتصادات المتطورة لا تشبه اقتصادات منتصف القرن العشرين الصناعية. فالتصنيع الخاص لا يمثل سوى 11? من الاقتصاد الأميركي، بينما لا يتعدى الإنتاج الزراعي 1?. وفي الأثناء، ترتفع الرعاية الصحية بشكل تدريجي كحصة من الناتج المحلي الإجمالي:
ومعظم البلدان المتقدمة تُظهر نسقاً مماثلاً. كما أنها تُنفق على التعليم أكثر. وهذان القطاعان باتا مسؤولين عن حصة متزايدة من التشغيل. وبالتالي، فمن الممكن جداً أن يكون مستقبل الاقتصادات المتقدمة هو استقرار في إنتاج السلع المصنعة والمواد الغذائية وزيادة في استهلاك الخدمات، على اعتبار أن الأشخاص المنتمين للطبقة المتوسطة قد يكونون راضين عن كمية الأشياء المادية التي لديهم وقد يكونون أكثر اهتماماً بخدمات الرعاية الشخصية.
لكن قطاعات المستقبل الخدمية قد لا تخضع للمفعول السحري للأسواق الحرة على غرار الزراعة والصناعة. فالأسعار في الرعاية الصحية لا تمثّل مؤشرات جيدة جداً على التكلفة والقيمة بسبب «المعلومات غير المتماثلة» وعدم اليقين ومشاكل أخرى، ولهذا لا نرى أشخاصاً كثيرين يبحثون عن أقل الأسعار عندما يريدون شراء خدمات صحية. أما بالنسبة للتعليم، فإن فوائده تكمن في المستقبل البعيد ومن الصعب قياسها سلفاً، ولا شك في أن الكثير من الناس يجنون فائدة من الكلية، لكن المكاسب الاقتصادية لا تبدو مرتبطة بالسعر المدفوع مباشرة. والحال أنه عندما لا يعرف الناس ما الذي يحصلون عليه، لا تستطيع المنافسة فعل فعلها.
وبالتالي، فإن قطاعات المستقبل الخدمية قد لا تستفيد من انضباط الأسواق قدر استفادة القطاعات المادية في الماضي. وقد يكون ذلك سبب عدم انخفاض أسعار المواد الخدمية الباهظة على نحو ما فعلت أسعار المنتوجات المادية.
وربما ليس من قبيل المصادفات أن تكون الرعاية الصحية والكلية اثنين من القطاعات الرئيسية التي يستهدفها ساندرز بالتأميم أو شبه التأميم. والواقع أن هذه الخدمات مؤمَّمة أصلا في معظم البلدان المتقدمة، والتعليم العمومي عمومي أصلاً. وبالتالي، فإن التحول البنيوي إلى هذه القطاعات قد يجعل المواد الغذائية والطاقة والنقل والسكن والمواد الاستهلاكية أكثر غلاءً. وإلى ذلك، فإن من شأن ارتفاع الأسعار زيادة جاذبية التدابير الخاطئة وغير الموفقة المؤذية للاقتصاد.
وعليه، فإذا استطاع الاشتراكيون الجدد التشبث بالقطاعات الخدمية، فقد ينجحون حيث أخفق نظراؤهم خلال القرن العشرين. لكنهم إن تدخلوا أكثر مما ينبغي في القطاعات، حيث تشتغل الأسواق بشكل جيد، فسيجدون أنفسهم يكررون الأخطاء القديمة نفسها.

ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس»