مسؤولو صيد الأسماك في بحر الشمال قالوا إن موافقة بريطانيا على الخروج من الاتحاد الأوروبي (البريكست) ستوفر لهم 30 ألف فرصة عمل إضافية تدخل حيز الملموس، وستضخ في اقتصاد البلاد مقدار 3 مليارات جنيه إسترليني سنوياً، فما كنت تتذوقه من أطباق القريدس الشهيّة في مطاعم العواصم الأوروبية، هي من مياه الشمال، حيث تناوب عليها صيادو الأعماق من 8 دول (= من إسبانيا إلى السويد ومن إيرلندا إلى ألمانيا وبلجيكا) وجرفوه.
لندن اليوم تصم آذانها عن صرخات مصانع الأسماك في كل أوروبا.. وبريطانيا تقول كلمتها: أعيدوا لنا بحرنا.
لكن تصريحاً لأحد الدبلوماسيين الأوروبيين المقيمين في بروكسل، عزّز من أن حسم المعركة لا تزال أيامه طويلة (= أمام الانفصال عام من الآن كفترة انتقالية) قائلاً: إن التوصّل لاتفاق يسمح بالصيد في المياه البريطانية، يعدُّ شرطاً مسبقاً لأي اتفاق حول العلاقات التجارية مع بريطانيا).. إذاً ثمة معوقات في الطريق إلى الخلاص.
في جانب آخر ليس بعيداً عن البحر: تدخلُ موانئ بريطانيا ألف حاوية يومياً، وألف أخرى تخرجُ منها بالدقة ذاتها والنظام، لا خطأ تقني ولا اختلاف في المواعيد، تستورد المواد الخام من أوروبا، وتصدر لها الصناعات المختلفة. هذا المشهد تحرص بريطانيا على ألاّ يضطرب أو يتغيّر، أما توقفه فيما لو حدث، وهو مستحيل، فإن القضية تتحول إلى تهديد حقيقي وخطر يضرب اقتصاد المملكة المتحدة في مقتل. ورغم كل الإجراءات والتحوطات المسبقة، فإن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي سيكلفها 130 مليار جنيه إسترليني، وبعد الخروج - خلال الفترة الانتقالية - ستتكبّد خسائر قدرت بـ70 مليار جنيه استرليني (= قدّر المجموع ب200 مليار جنيه استرليني ما يساوي ثلث الدخل السنوي لبريطانيا). مبالغ ليست قليلة.
إن أوروبا التي وافقت على خروج بريطانيا، هي بالفعل لن تترك بريطانيا تحلّق بعيداً عنها، فهي لا ترى في النفق الرابط بينهما يحقق المطلوب المقنع، لذلك تجرى التحضيرات في بروكسل لاتفاقية تربطها بالاقتصاد الأوروبي تكون خاصة ومحددة وطويلة، تضبط العلاقة معها، من بينها حرية التنقل لمواطني الطرفين، حرية عمل الشركات والبنوك، وتبادل العمالة في كلا السوقين، وأمور أخرى مهمة.
أميركا الدولة الصديقة والحليف التاريخي للندن، كان لها وجود في عناصر بناء قرار الخروج البريطاني، فقد زار لندن باراك أوباما، الرئيس الأميركي السابق، في وقت كانت فيه بريطانيا تستعد لدخول (معركة الاستقلال عن أوروبا) وهذه الجملة المباشرة يستخدمها المفاوضون البريطانيون لما تحمله من تحفيز وطني - لكن موقف أوباما لم يكن واضحاً بما يكفي. أما الرئيس الأميركي الحالي دونالد ترامب، الذي قام بزيارة إلى لندن العام الماضي، فقد جاء موقفه إيجابياً وفي صف الخروج، على عكس ما أوحى به سلفه. يُضاف إلى ذلك الزيارات المكوكية التي قامت بها رئيسة الوزراء السابقة تريزا ماي إلى دول المنطقة، وحصلت فيها على ضوء مشجع للتعامل مع بريطانيا (المستقلة) عن الاتحاد، ودعم اقتصاد ما بعد الخروج. ذلك كله، مضافاً إليه المزاج النفسي البريطاني الذي يرى أن لندن ستظل أهم من بروكسل، جعل بريطانيا تتخذ قرارها التاريخي.
في أميركا اليوم من لا يريد لاقتصاد الاتحاد الأوروبي أن يكون مزدهراً وصاعداً كما هو حاله في الراهن، بجناحيه الألماني والفرنسي، يضاف إلى ذلك أن بعض دول المنطقة ترى في الخروج البريطاني، استقلالاً للقرار السياسي والاقتصادي للندن، الأمر الذي قد يفتح الباب واسعاً وواضحاً للاستثمارات الاقتصادية المباشرة وهي أولوية للطرفين، تتبعها باقي التعاملات الأخرى التي لم تكن ممكنة وبريطانيا في الاتحاد.