صدرت مؤخراً في فرنسا وبريطانيا دراسات وكتب صاغها مؤرخون ومفكرون وسياسيون مشهود لهم برتبهم العلمية تتناول مسألة الشعبوية بزواياها الخفية والنافرة، وبامتداداتها الشعبوية والنخبوية وبآثارها على الأوضاع الاجتماعية وعلاقتها بالديمقراطية، والديكتاتورية والتوتاليتارية ينظرون إليها وكأنها اجتراح غير مسبوق واكتشاف طازج في التاريخ وظاهرة طالعة بلا ميراث ولا ماضٍ منفصلة ككائنات عجائبية عن التراكمات والزمن والأحزاب والحروب ونظم القيم المكدسة، ليس في القرن العشرين فحسب، بل في كل الأطوار ومركبات الزمن.
لكن وعلى الرغم من إشارات خجولة إلى جذور لها فإنها بواقعها قديمة قدم الامبراطوريات والممالك والجمهوريات. صورت وكأنما استُنبتت من العدم. أو بِنت ساعتها أو خلطة غرائبية إعجازية منّ بها الزمان.
لا جديد تحت الشمس.. قولة حقيقية. لكن إذا كانت الشعبوية بتمظهراتها اليوم كما تمظهرت كمثيلاتها أو خرافاتها أو وقائعها، فهي كانت منذ ظهورها مجرد تفصيلات أو مفردات على هوامش أو ممارسات أنظمة مختلفة. فإذا لم تكن إطاراً منهجياً شاملاً أو منظومة متكاملة، فلأنها كانت دائماً مفردة من أبجدية هياكل سياسية وفكرية ضخمة. هنا بالذات يأخذنا العجب عندما نجد أن ما يجدّ ويكدّ فيه بعض المؤرخين والكتاب يتقابل بلا استدلال عندما تشرعن الشعبوية أو تُعطى شرعية كبدائل فكرية أو سياسية أو منهجية أو حتى فلسفية.
حتى التعجب من تساؤلات كبار المحللين: هل هي شمولية؟ هل هي بديل من الديمقراطية، هل منبت عشبها على أطلال الليبرالية؟
أحدث الكتب صدر قبل أسابيع للمؤرخ «بيار رونزانال» بعنوان «عصر الشعبوية نظرية، نقد» (عن دار سوي في باريس) مفرداً بكل معطياته لهذه الظاهرة بخصيصة جديدة في المسالك والأطوار الاجتماعية والسياسية، وحتى قواميسها الجديدة والقديمة.
كل ذلك لمنح الشعوبية شرعية وصدقية، بل صيرورة وأفقٍ تقدميٍ مطرد. ومن خلال ذلك يطالب المؤرخ بتعامل العالم مع هذه الظاهرة بجدية لا بخفة أو احتقار، لتليق بكبريات الفلسفات والهياكل الفكرية المعروفة، كأن تعادل مفردةً أو عدة مفردات بأبجدية كاملة أفقياً وعمودياً. أو كما يقول المؤرخ «باعتبارها نوعاً من الأنظمة والحركات السياسية برغم توزعها وتفرقها من فنزويلا شافيز إلى مجر فيكتور أوربان إلى فرنسا ماكرون، واليساري «ميلانشن»، مؤكداً وجازماً «علينا عدم إهمال هذه الطرائق لأنها شرعية ببنياتها»، مبرراً أن الشعبوية جاءت جواباً على استنفاد الانتقال من مجتمعات الطبقات إلى مجتمعات الشرذمة، خصوصاً بتجاوزها فكرة القائد الواحد والشعب الواحد متبنياً التعبير المباشر الصادم للشعب عبر الاستفتاءات لا بالانتخابات ولا بالوسائط ولا بالأحزاب بمرجعياتها، لتقزيم أدوارها مما يجعلها تضع السلطة وجهاً لوجه مع الشعب كما حصل مع ماكرون وترامب وزيلنسكي في أوكرانيا: لكن ويا للمصادفات وهناك أيضاً من يعتبر الشعوبية جزءاً حيوياً منشطاً للديمقراطية، وهناك آخرون يرونها جزءاً من أمراض الديكتاتورية... بل أيضاً من يراها مسحة من مسوح التوتاليتارية.
لكن لو افترضنا انطلاقاً من تحديدات ونوازع ومقاصد الشعوبية كما تتراءى الآن نجد أنها رافقت كل المراحل السياسية من الاتحاد السوفييتي ومخادعات لينين وديكتاتورية ستالين، بل جزء هامشي عملي من الأنظمة الشمولية الأخرى كالماوية (الثورة الثقافية)، و«الكاستراوية» والنازية ونتذكر هنا نظرية جوبلز: اكذب اكذب تصبح الكذبة حقيقة. ولا ننسى مسارات بعض الأنظمة العربية الاشتراكية «البعثية» في العراق وسوريا، والشيوعية في يمن علي صالح. ونجد في المقابل أنها لم تختفِ إطلاقاً عن أنظمة ديمقراطية، بل كانت وسيلة من وسائلها:أردوغان في تركيا، نتنياهو في إسرائيل، تريزا ماي وبوريس جونسون في بريطانيا، وترامب في الولايات المتحدة وماكرون في فرنسا. استخدم هذه الظاهرة في الديمقراطية البرلمانية لتعبث بالحقائق، وتستدل التضليل والعنف والقمع والكذب.
ما نريد قوله إن هذه الشعبوية التي يُراد لها أن تكون رؤيا شاملة وطريقة حكم متكاملة ليست أكثر من شعارات متناثرة هشة متناقضة وأفكار مبتورة. إنها تفاصيل يمكن أن ترافق كل الممارسات السياسية الديكتاتورية والديمقراطية والليبرالية واللاليبرالية. لكنها لن تكون نظاماً منسجماً تقوم على انقاض الأعراف الليبرالية، بل هي جزء من تحولها اليوم إلى لا ليبرالية فوضوية.