لماذا يذهب كثير من أفضل وألمع خريجي الجامعات الأميركية إلى العمل في مجال الاستشارات الإدارية أو الشؤون المالية أو كليات الحقوق؟ هذا سؤال دائم. هناك بعض النظريات المقنعة سأتعرض لها، لكن لماذا نجد معظم شاغلي المناصب العليا، في القطاعين العام والخاص، من كبار السن؟
إنني أطرح هذين الاتجاهين، بالإضافة إلى ثالث يتمثل في تراجع نمو الإنتاجية، المرتبطين بكون معظم المهام أصبحت معقدة بشكل متزايد في أميركا. فبحلول الوقت الذي يكون لديك فيه من الخبرة ما يكفي لممارستها، تكون أقل اهتماماً بالمخاطرة. أما في سنوات شبابك التي تتسم بالمغامرة، فتكون الوظائف الوحيدة المتاحة لك هي تلك التي لا تشبع روح المغامرة لديك. ونتيجة كل ذلك هو «أميركا أقل جسارة».
نبدأ بأعضاء «رابطة اللبلاب». ليس لدي أي مشكلة مع المحامين أو المستشارين الإداريين والماليين، لكن السعي وراء هذه المهن، يبدو وكأنه سوء تخصيص للإبداع الإنساني. فهذه الوظائف لا تشمل معظم قيمة الاقتصاد الأميركي، فلماذا تجذب الناس كالمغناطيس؟
هناك وظائف مميزة وصعبة وذات أجور عالية، مثل رئيس مؤسسة بحثية في واشنطن (أدار روبرت ماينارد هتشينز، جامعة شيكاغو، وهو في أواخر الثلاثينيات من عمره، بدءاً من عام 1929)، بيد أن التعليم لا يدربك بالضرورة على مثل هذه الوظائف. وإلى ذلك، فأنت بحاجة إلى التعرف على كثير من جوانب الحياة الأميركية للقيام بهذه المهام. وكلما ازداد المجتمع والاقتصاد الأميركيان تعقيداً، تعين اختيار الأشخاص ذوي الخبرة، وهذا يجعل الأمر أكثر صعوبة على الأصغر سناً.
وبدلاً من ذلك، فإن خريجي أفضل الجامعات الأميركية من الأذكياء سيسعون إلى أسواق عمل واسعة ورائجة، تمنح فوائد كبيرة وحماية عند حدوث انخفاض. لذا فإن الاستشارات الإدارية مثالية. إذا كنت ذكياً وتعمل بجد، يمكنك إنجاز ذلك بسرعة، وستكون مهام مستوى الدخول لطيفة بما يكفي، لدرجة أنها لا تحتاج سوى لمهارات قليلة للغاية.
على شبكة الإنترنت، تروج أميركا للقيمة التأمينية لشبابها الموهوبين، ولكن على حساب الابتكار طويل الأجل.. فمن يريد إتقان عمل معقد لمدة 10 أو 15 عاماً، دون ضمان حقيقي لتحقيق نجاح تجاري؟
لقد أصبحت الطبيعة المتكاملة للمأزق الذي تشهده أميركا أكثر وضوحاً. وبينما يزداد الطلب على الخبرة في العديد من الوظائف الأميركية الأكثر نفوذاً، يقل عدد الشباب المؤهلين. ويتحول هؤلاء الشباب إلى أنشطة أقل عائداً وأكثر استقراراً.
وتعد معدلات النمو البطيئة في التقدم العلمي جزءاً من هذه الصورة. فالعلماء الأكبر سناً، غالباً ما يكونون في موقع المسؤولية، لكنهم لا يحققون اختراقات مفاهيمية كبيرة، بينما يميل العلماء الأصغر سناً لأن يكونوا أكثر ثورية، وهو أمر صعب حين يستغرق منك حتى أواخر العشرينيات لكي تتعلم أساسيات مجالك. ومعظم المجالات تكون معقدة للغاية لشاب في الثالثة والعشرين من عمره لتحقيق تقدم علمي جديد فيها، بغض النظر عن مدى تألقه.
ويعد قطاع التكنولوجيا استثناءً، لأن قدراً كبيراً منه جديد تماماً، وكان مجالاً للشباب الذين لا يواجهون عجزاً في الخبرة المتراكمة، حيث لا يوجد أي أحد لديه مثل هذه الخبرة. وكانت معدلات الابتكار عالية، كما أن ثقافة التكنولوجيا عظّمت المجازفة. ونفس الشيء ينطبق على بعض المجالات العلمية الجديدة، مثل «كريسبر» (التكرارات العنقودية المتناظرة القصيرة منتظمة التباعد)، حيث تكون التحديات مرعبة ولكن لا توجد خبرة متراكمة ذات صلة.
في أميركا، إذن، توجد قطاعات قليلة بها الكثير من الثوريين، بينما يتباطأ التقدم غالباً في قطاعات أخرى. وقد يشعر العاملون بمزيد من الأمان والاستقرار، لكن هذا ليس مثالياً بالنسبة للشباب الموهوبين، الذين يحتاجهم اقتصاد المعرفة والابتكار.
ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس»