في 23 يناير، أصدرت محكمة العدل الدولية قراراً بالإجماع يقضي بأن تتخذ ميانمار «جميع التدابير في حدود سلطتها» لحماية سكانها من أقلية الروهينجا العرقية من الإبادة الجماعية. وانتهت الأمر بالقضية التي عارضتها زعيمة ميانمار المدنية «أونج سان سو كي» أمام محكمة العدل الدولية بسبب دولة أفريقية صغيرة على بعد آلاف الأميال. فكيف بدأت القضية؟
بدأت هذه القضية قبل بضعة أسابيع، عندما اتهمت جامبيا ميانمار بانتهاك اتفاقية الأمم المتحدة لعام 1948 بشأن الإبادة الجماعية. وسافرت «سو كي» إلى لاهاي للدفاع عن بلادها، قائلة إن الإجراءات التي اتخذتها حكومتها كانت جهوداً مشروعة لمكافحة التمرد ضد المتمردين في ولاية راخين.
وطالبت جامبيا باتخاذ تدابير فورية لمنع مزيد من الضرر ضد الروهينجا. وكان الحكم الذي صدر الأسبوع الماضي هو رد محكمة العدل الدولية. غير أن المحكمة لم تحكم بما إذا كان قد تم ارتكاب إبادة جماعية. وطالبت المحكمة بأن تقدم ميانمار تقريراً في غضون أربعة شهور عن الخطوات التي اتخذتها والمحافظة على أي دليل ذي صلة بقضية الإبادة الجماعية.
يذكر أنه منذ عام 2017، فر ما يقرب من مليون من مواطني الروهينجا من حملة عنف تُدار من قبل قوات الأمن في ميانمار. وتأتي هذه الهجمات بعد عقود من التمييز ضد أقلية الروهينجا المسلمة في ميانمار، حيث حُرموا من حقوق المواطنة الأساسية. وفي عام 2018، دعت بعثة تقصي الحقائق التابعة للأمم المتحدة إلى التحقيق مع كبار الجنرالات ومحاكمتهم أمام محكمة جنائية دولية بتهمة الإبادة الجماعية وارتكاب جرائم ضد الإنسانية وجرائم حرب.
جدير بالذكر أن محكمة العدل الدولية هي أعلى محكمة في الأمم المتحدة. وقد اتفقت الحكومات على الالتزام بقراراتها في القضايا التي تكون طرفاً فيها، وعلى اتخاذ تدابير مؤقتة وفقاً لما تطلبه المحكمة.
فلماذا طلبت جامبيا باتخاذ إجراءات لمنع الضرر عن الروهينجا، حيث أنه يمكن لأي دولة من الدول الـ 152 التي صدقت على الاتفاقية بشأن الإبادة الجماعية رفع قضية ضد ميانمار في محكمة العدل الدولية؟
ترتبط الإجابة بما يطلق عليه أستاذاً العلوم السياسية «مارثا فينمور» و«كاثرين سيكينك»/رواد تغيير المعايير/. فدورة حياة أحد المعايير تبدأ برائد لهذا المعيار يستخدم منصة تنظيمية لإقناع الجهات الفاعلة الأخرى مثل الحكومات والمنظمات الدولية بقبول وتبني هذا المعيار.
وطالما كانت جامبيا رائدة في مجال حقوق الإنسان. في سبعينات وثمانينيات القرن الماضي، قادت الدولة الجهود على مستوى القارة لبناء نظام حقوق الإنسان في أفريقيا. وساعد رئيس جامبيا في تلك الفترة «دودا جاوارا» على إرساء هذه الأسس.
وعندما دعت منظمة الوحدة الأفريقية في عام 1978 إلى تشكيل لجنة من الخبراء لصياغة أداة لحقوق الإنسان على مستوى القارة، اقترح «جاوارا» استضافة القائمين على صياغة الأداة. وفي النهاية، صاغت المجموعة الميثاق الأفريقي لحقوق الإنسان والشعوب، والمعروف أيضاً باسم «ميثاق بانجول»، نسبة إلى عاصمة جامبيا.
ورفع «جاوارا» دعوى قضائية أمام اللجنة الأفريقية لحقوق الإنسان والشعوب ضد الدولة التي كان يحكمها من قبل. في مايو 2000، قضت اللجنة بأن حكومة جامبيا تنتهك أحكاماً عدة من الميثاق الأفريقي. ولم يعد «جاوارا» إلى السلطة إطلاقاً، وتولى «يحيى جامع» الرئاسة وحكم لمدة 22 عاماً.
وتم اتهام «جامع» بانتهاكات لحقوق الإنسان، وتم نفيه عام 2017. ومع زوال نظامه، تواصل جامبيا القيادة في مجال حقوق الإنسان العالمية. وفي هذه المرة، يقود هذا الجهد وزير العدل الجامبي «أبو بكر تامبادو».
وقال «تامبادو» لبرنامج «ذا وورلد» (العالم) الذي تبثه «بي. بي. سي»: لا أحد ساعدنا، ولا أحد مارس الضغط على الرئيس جامع، الأمر الذي دفعنا إلى المرور بفترة صعبة للغاية استمرت عقدين من الزمان. لا نريد أن يشعر الآخرون بألمنا.
وطلبت جامبيا من محكمة العدل الدولية إدانة ميانمار لانتهاكها «اتفاقية الإبادة الجماعية»، بيد أن الفصل في هذا الطلب قد يستغرق سنوات عديدة. فإثبات حدوث إبادة جماعية يتطلب حداً مرتفعاً للغاية، ويتعين على المدعين إثبات أنه كانت هناك نية لتدمير السكان كلياً أو جزئياً.
وتوقعاً لحكم محكمة العدل الدولية، عيّنت حكومة ميانمار لجنة وجدت أن جرائم الحرب حدثت خلال حملة مكافحة الروهينجا لعام 2017، لكن الحكومة تنفي أي «نية للإبادة الجماعية». ورفضت ميانمار دخول محققي الأمم المتحدة، مما يجعل من الصعب عليهم جمع الأدلة.
ولكن بالنسبة للروهينجا، يعد حكم محكمة العدل الدولية الصادر الأسبوع الماضي نصراً بالفعل، حيث يُبرز الحكم معاملتهم من قبل حكومة ميانمار وظروفهم المعيشية المروعة في أكبر مخيم للاجئين في العالم.
*أستاذ مساعد للعلوم السياسية في كلية «مورهاوس كوليدج» في أتلانتا
ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس»