لم تتسبب حقيقة جزئية في ضرر أكبر مما تسببت فيه حقيقة أن الرجال والنساء تحفزهم في الأساس المصالح الذاتية. فإذا أقام المرء أنظمته السياسية والاجتماعية على فكرة أن الفرد المستقل صاحب المصالح الذاتية هو أساس وحدة المجتمع، فالأمر ينتهي به إلى ثقافة للفردية توسع مساحة المناورة بين الناس لكنها تمزق العلاقات داخل المجتمع، فينتهي الأمر إلى رأسمالية يجري فيها تركيز كبار النجوم في مدن النجوم الكبار ويتخلف الباقون. وفي نظام قائم كلياً على المصالح الذاتية الفردية المتنافسة، يتقدم المتميزون السباق عاماً بعد عام. وينتفي الشعور بالمجتمع العام والكرامة المتساوية. وهذا هو عيب الليبرالية غير المقيدة، وهو ما يطلق عليه المتشددون «الليبرالية الجديدة» أو «الرأسمالية المتأخرة».
والشعبويون في اليمين واليسار ينظرون إلى هذا الواقع الحالي ويتوصلون إلى خلاصة سريعة، هي أن المباراة مزورة! والليبرالية خديعة! ثم يتوصلون إلى استنتاج مختلف. فالمنطق الأساسي للمجتمع ليس بحث الأفراد بالفعل عن مصالحهم الذاتية، بل هناك جماعات تتصارع من أجل السلطة، والمجتمع معترك تسحق فيه جماعات معينة جماعات أخرى.
واليمين في عهد ترامب يرى أن النخب الثقافية على السواحل تحاول سحق ونزع المشروعية عن الوطنيين المسيحيين البيض داخل البلاد. واليسار الثقافي يرى أن الأمر تلخصه تركة ميشيل فوكو برمتها، فاللغة أداة الطبقة القامعة تستخدمها دوماً لتهميش المقموعين. واليسار الاقتصادي يرى أنها حرب بيرني ساندرز الطبقية. فالطبقة الرأسمالية الجشعة تزيف النظام وتفقر الطبقة العاملة. والتصورات الشعبوية تختلف، لكن هيكلها الأساسي واحد، وتدور جميعها حول أننا واقعون في أسر صراع حياة أو موت بين جماعات قامعة وأخرى مقموعة، صراع «نحن» ضد «هم»، و«الأخيار» هنا و«الأشرار» هناك. بل، المشكلة في المجتمع لم تحدث فحسب، بل تم تدبيرها عن قصد من الآخر الشرير الذي يجب إلحاق الهزيمة به. ووجودنا نفسه على المحك.
وإذا كان علم الإنسان في الليبرالية غير المقيدة يمثل الفرد المستقل الذي يشق طريقه بنفسه، فعلم الإنسان في الشعبوية يمثل النمل المقاتل في حرب قبائلية بلا رحمة. وكلتا القصتين تجعلنا بؤساء! في إحدى القصص، هناك حياة العزلة وعدم المساواة والشعور بأن المرء غير مرئي. وفي الأخرى، هناك الخبث والخوف والحرب المستمرة. لأن كلاً من التوجهين السياسيين خاطئ بشأن فهم الطبيعة البشرية. فالبشر لم يتطوروا ليصبحوا العنصر المهيمن في العالم لأنهم أكثر استقلالاً ولا لأنهم أكثر قوة في الأسنان والمخالب. لقد انتعشنا كجنس لأننا أفضل في التعاون. وطورنا شبكات اجتماعية معقدة في عقولنا لتجعلنا أفضل في الترابط والتعليم والتعاون. ولم نتعاون لنقوم فحسب بالأشياء التي نريد القيام بها كأفراد، بل تعاونا غالباً لبناء بيئات مشتركة يمكننا الاستمتاع بها معاً. وفي الغالب نختار تحدياً حتى يمكننا الاستمتاع بالتعاون، وكفى. فالعلاقات غاية في ذاتها، وأفضل مستقبل للسياسة الأميركية ليس قائماً على التنافس الفردي أو حرب الجماعات، بل على فكرة أننا مجتمع هائل التنوع يحقق الخير بالتعاون.
وهذا يعني في المقام الأول انتخاب زعماء بارعين في التعاون. وفي المقام الثاني، يعني إدخال قيم النسيج التعاوني في كل منظماتنا. وهناك منظمة اجتماعية رائعة في بالتيمور لديها بعض نقاط القوة القليلة التي تشكل ثقافتها. وسنكون أفضل حالاً إذا اتبعت كل منظمة في أميركا هذه القيم. ومن هذه القيم أن يتعرف المرء على قيمه، وألا يبالي ببعض المضايقات في سبيل التواصل مع الآخرين. ومنها أن يتعلم من كل الأصوات؛ لأن معظم تحدياتنا معقدة، والأمر يحتاج إلى رؤية المشكلة ككل. وأن يفترض أن الناس لديهم أفضل النوايا ويركز بقوة على القيم التي يقدمونها. ويتعين على المرء تعمد الاختلاط بمن يختلفون عنه. ويجب أن يعامل العلاقات باعتبارها ثروة. وأن الروابط الإنسانية مصدر رئيسي لمنظماتنا. وأن يدرك القيم الكامنة في كل شخص، وأن يجتمع مع جميع الأشخاص. وأن يتعلم من الفشل ويقيم آليات تغذية مرتجعة تدعم التغير والنمو الشخصي.
وكي نقيم سياسات النسيج، علينا إصلاح المؤسسات حتى تستطيع تشجيع التعاون. وبعض مؤسساتنا مثل الكونجرس، استهلكتها تماماً الحرب القبائلية. وبعض المؤسسات لم تعد إنسانية. فلم تعد مدارسنا ومستشفياتنا وسجوننا وأنظمتنا للرعاية الاجتماعية تقيم علاقات متينة مع الناس، بل تعاملهم كما لو أنهم وحدات تتعين معالجتها ثم يتخلصون منها. فأمام أميركا مهمة هائلة في الإصلاح المؤسسي. كما يتعين معالجة انقساماتها الأكثر خطورة.
وسياسات النسيج تنمو على أساس الاعتراف بأنه لا توجد أغلبية مهيمنة في أميركا. وأن جماعتك لن تسحق أو تتخلص من الجماعة المعارضة. ولا بديل عن إقامة أنظمة تعاونية أفضل تتجاوز الاختلافات. صحيح أن البشر في جانب منهم أنانيون وأصحاب مصالح ذاتية، لكننا قبل هذا اجتماعيون ومتعاونون. وهذا هو الشق الذي يجب علينا تحفيزه.
*كاتب أميركي
ينشر بترتيب خاص مع خدمة «نيويورك تايمز»
Canonical URL: https://www.nytimes.com/2020/01/30/opinion/us-politics.html