كل أمة من الأمم تنشد النهضة والتقدم، وتأخذ بأسبابهما كي تصل إلى هدفها المطلوب، وهو التنافس الحضاري مع باقي الأمم، وهذا ما نجحت فيه الدول المتقدمة، وقد حدث في السابق للحضارة العربية الإسلامية. «دار الكتب والوثائق القومية» المصرية أصدرت كتاباً مهماً يتحدث عن «الحركة العلمية في مصر في القرن السابع عشر»، لمؤلفه «ناصر عبدالله عثمان»، والذي يشير في بداية كتابه إلى الأسباب التي جعلت بعض العلماء والكتاب في الشرق والغرب يقولون إن وهج العالم العربي والإسلامي لم ينطفئ، وإن التحديات والتغيرات الكثيرة التي واجهت العالم العربي هي ما شكّلت العلم وحركة التأليف والتصنيف على مدى قرون. فمثلاً يحدّثنا المؤلف: عن سقوط بغداد على أيدي التتار والمغول وما فعلوه بها من دمار وقتل لعلمائها وسكانها وإلغاء لغالبية إنتاجها من العلم، حيث ألقوا الكتب والمؤلفات الكثيرة في نهر دجلة، وما فعلته مصر بالمقابل عندما فتحت أبوابها للعلماء ودافعت عن الأمة العربية ضد تلك الأخطار الماحقة فأنقذت الثقافة الإسلامية من مخالب الجهل عبر جمع وحفظ كثير من المواد التي تتألف منها هذه الثقافة في كتب كبيرة على شكل موسوعات عظيمة.
ثم يحدثنا المؤلف عن فن الإدارة في القرن السابع عشر، ويقول: الإدارة هي عصب أية دولة، وأي خلل فيها يترك آثاره على الحركة العلمية وعلى مختلف قطاعات الحياة الثقافية والإنتاجية والخدمية، حيث كان اختيار الموظفين يتم وفق معايير دقيقة وكان مَن بيدهم الأمر يتخيرون معاونيهم وفق أفضل المقاييس دون انحياز لمذهب معين، كالتحيز للمذهب الحنفي مثلا أو المالكي أو غيرهما، ورغم أن كثيرين طالما حاولوا المتاجرة بالوظيفة وبالتمذهب والتودد لمن بيده الأمر بحثاً عن وظيفة. ومن الطبيعي أن يؤدي التحيز المذهبي إلى صراع بين من يستحق الوظيفة ومن لا يستحقها، ونتج عن ذلك أن تولي المناصب من ليس بأهل لها، فمنهم من كان يجهل أبسط المعارف والقواعد اللغوية والشرعية، ومنهم مَن كان يفتي لمصلحة خاصة.. حتى كثرت الشكاوى من تجاوزات على تلك الشاكلة، وأصبح ذوو الكفاءات يضطرون للرضا بالوظائف الدنيا دون تطلع لما يناسب علمهم. وبالطبع فقد أثّر ذلك سلباً على العلماء وأصحاب الكفاءات الذين حاولوا الحصول على وظائف دون جدوى.
ويحدثنا المؤلف عن وضع اللغة العربية في العصر، فيقول: اللغة العربية من أرقى اللغات السامية، فعدد مفرداتها دون تكرار يصل إلى 12 مليون كلمة، مقارنةً بمفردات اللغة الفرنسية (150 ألفاً)، والروسية (130 ألفاً)، والإنجليزية الأكثر انتشاراً (600 ألف).. وبها 16 ألف جذر لغوي، وتتميز بمرونتها وسعة اشتقاقها.. لذلك اختارها الله لأن تكون لغة القرآن والحديث الشريف، كما استطاعت أن تكون أداة لكل ما نُقل من علوم الفرس والهند واليونان وغيرهم خلال القرون الأولى للإسلام. لكن اختلاط العرب بأمم الثقافات المختلفة بعد انتشار الإسلام كان بمثابة مكمن الخطر على هذه اللغة، إذ نتج عنه انتشار اللحن وفساد الملكة العربية، مما ألجأ العرب إلى ابتكار علم النحو ووضع أصوله وقواعده. وحينما تفاقم الأمر أسرع المسلمون الأوائل إلى حفظ المسائل اللغوية من خلال الكتابة والتدوين، ومن ثم ظهرت المعاجم اللغوية في سماء الثقافة العربية.