ستزداد أزمة القيادة الأوروبية بعد تفعيل «بريكست» يوم السبت المقبل، بعد أن بدأت مقدماتها عقب الاستفتاء الذي أُجري عليه في يونيو 2016، فقد جمدت بريطانيا فعلياً دورها في الاتحاد الأوروبي بعد الاستفتاء، واقتصرت العلاقات بين الطرفين على مفاوضات، تهدف إلى التوصل لاتفاق يُنظَّم ترتيبات خروج بريطانيا.
وفقد الاتحاد الأوروبي، في هذا السياق، أحد الأركان الثلاثة التي قامت عليها قيادته، ودخل الركنان الآخران الألماني والفرنسي في تنافس على الصدارة، في ظروف هي الأصعب بالنسبة إلى هذا الاتحاد منذ تأسيسه.
وهذا تنافس تقليدي، تضرب جذوره في تاريخ العلاقات الألمانية- الفرنسية منذ منتصف القرن التاسع عشر، ولكنه آخذ في الازدياد، لأسباب أهمها انكفاء بريطانيا عقب استفتاء «بريكست»، والتغير في السياسة الأميركية باتجاه مطالبة الدول الأوروبية، بتحمل التزاماتها في نفقات الدفاع الجماعي في الحلف الأطلسي.
وأثار هذا التغير خلافاً بين ألمانيا وفرنسا بشأن كيفية التعاطي معه، خاصة عندما دعا الرئيس إيمانويل ماكرون، إلى الإعداد لتكوين جيش أوروبي موحد، سعياً إلى تقليص الاعتماد على الولايات المتحدة، فيما رأتها ألمانيا دعوة غير واقعية، ودفعت باتجاه التفاهم مع واشنطن على صيغة لتقاسم الأعباء، تراعي التفاوت في قدرات الدول الأوروبية.
وليس هذا الخلاف، الذي حدث أصلاً داخل الحلف الأطلسي، إلا رأس جبل الجليد الظاهر في التنافس الألماني-الفرنسي على قيادة الاتحاد الأوروبي في المرحلة الراهنة، ولأن فكرة الجيش الأوروبي تبدو بعيدة اليوم، وفي المدى المنظور أيضاً، قد لا نجد تفسيراً لتكرارها، مصحوبة بالطعن في إمكان استمرار الحلف الأطلسي، إلا في سياق سعي فرنسا ماكرون إلى وضع نفسها في موقع الصدارة على المستوى الأوروبي، عبر طرح مبادرات حتى إذا لم تكن واقعية. وفضلاً عن مسألة الدفاع، تحفل قائمة الخلافات الألمانية-الفرنسية على المستوى الأوروبي بمسائل عدة، ربما يكون ضم دول أخرى (مثل ألبانيا ومقدونيا الشمالية) إلى عضوية الاتحاد أكثرها إثارة للجدل في داخله اليوم.
وكان واضحاً أن مكانة ميركل، وليست قوة ألمانيا في داخل الاتحاد فقط، تعوق طموح ماكرون إلى موقع متميز لفرنسا فيه، وتضمن المحافظة على نمط القيادة الثنائية الراهنة، ولكن عندما بدأ نفوذ ميركل في داخل حزبها «الاتحاد المسيحي الديمقراطي» يضعف، نتيجة تراجعه في الانتخابات، واضطرت في نوفمبر 2018 إلى إعلان أنها ستعتزل بعد انتهاء ولايتها الحالية عام 2021، أُثير سؤال عن إمكان استثمار ماكرون غيابها لتحقيق طموحه هذا.
غير أن السؤال بدا في حينه نظرياً لا يستند على أساس واقعي كافٍ، عندما كان مقرراً أن تغادر منصبها في الموعد المحدد للانتخابات الألمانية المقبلة، والذي يسبق موعد الانتخابات الرئاسية الفرنسية بستة أشهر فقط، بغض النظر عن فرص إعادة انتخاب ماكرون، في ضوء التحديات الداخلية المتزايدة التي تواجهه.
غير أن السؤال صار أكثر أهمية وجدية، في الأيام الأخيرة بعد استقالة أندريا ناليس من رئاسة الحزب «الديمقراطي الاشتراكي»، الأمر الذي وضع حكومة ميركل في مهب الريح، لأنها تقوم على ائتلاف مع هذا الحزب، كانت «ناليس» قد تحمست لبناء هذا الائتلاف، عقب انتخابات 2017، في مواجهة اتجاه قوي في داخل حزبها يُفضل الانتقال إلى المعارضة، أملاً في تحسين مركزه في الانتخابات القادمة.
وأصبح السؤال عن مصير حكومة ميركل أكثر إلحاحاً، بعد انتخاب قيادة جديدة للحزب «الديمقراطي الاشتراكي» أكثر يسارية (فوربرت والتر بورجانز، وساسكيا إيكسين) تفضل مغادرة الحكومة، إذا لم تقبل ميركل تغيير سياستها الاقتصادية-الاجتماعية لمصلحة الفئات والشرائح الأدنى في المجتمع.
فإذا اشتد الخلاف على هذه القضية، سيؤدي انسحاب الحزب «الديمقراطي الاشتراكي» من الحكومة إلى إضعافها، لأنه سيحولها إلى حكومة أقلية، ويفرض على ميركل تخصيص وقت وجهد أكبر للتفاعلات الداخلية، في الوقت الذي يصعب على فرنسا فرض قيادتها المنفردة للاتحاد في ظل تركيبه الحالي، ورفض عواصم وازنة فيه خاصة روما التي تدهورت علاقتها مع باريس في العام الأخير.
وفي كل الأحوال، يُتوقع في الفترة المقبلة أن يظهر الفراغ في القيادة الأوروبية، في صورة أكثر وضوحاً إلى أن يتبين النمط الجديد لهذه القيادة، وهل يمكن أن تبقى ثنائية، أو يُعاد إنتاج قيادة ثلاثية، إذا تمكن زعيم حزب «الرابطة» ماتيو سالفيني، المعروف بطموحه الشديد إلى لعب دور قيادي في أوروبا، من تشكيل حكومة برئاسته، عقب الانتخابات الإيطالية التي يُرجح أن تُجرى مبكراً عن موعدها المقرر في مايو 2023، بسبب الصعوبات التي تواجه الحكومة الحالية.