كان ذلك إخفاقاً آخر للخبراء والمراقبين السياسيين. عُد إلى الأشهر الأولى لحملة جو بايدن الرئاسية واقرأ ما كان يكتبه عنه الاستشاريون والمعلِّقون: إن الدعم الذي يحظى به إنما يعزى فقط إلى شهرته من فرط تداول اسمه في وسائل الإعلام، لكن مصيره التلاشي والاختفاء! إنه جد متقدم في السن حتى يترشح للانتخابات! إنه يقود حملة للانتفاع الشخصي! لقد مال الحزب يساراً وبايدن فقد الاتصال بالجماهير! لقد كان من المصوتين لصالح «قانون الجريمة»!
والواقع أن الجميع، تقريباً، كانوا متشائمين بشأن فرص حملة جو، لكن انظر حيث نحن الآن، على بعد أسابيع من موعد التصويت الفعلي. وإذا صحت تنبؤات استطلاعات الرأي، فإن بايدن سيفوز بولاية آيوا في الانتخابات التمهيدية، وسيأتي في المركز الثاني في ولاية نيوهامبشر، وسيفوز بولاية نيفادا بسهولة، كما سيفوز بولاية كارولاينا الجنوبية. هذا وتشير استطلاعات الرأي إلى أنه متقدم في كاليفورنيا، وأنه متقدم جداً في ولاية تكساس.
والحق أنني لا أعرف ما إن كان بايدن سيفوز بالترشيح الديمقراطي (فكل من بايدن وبيرني ساندرز يبدوان قويين)، غير أن هذا ليس هو المكان حيث اعتقد الكثيرون أننا سنكون اليوم. إنه المؤشر الألف على التوالي على أننا في النخبة المثقفة الساحلية لم نعالج مشكلة انفصالنا عن الواقع. والحالة الألف التي نرى فيها أن كل ثانية يمضيها المرء على تويتر تنتقص من معرفته للسياسة الأميركية، وأن العلاج الوحيد لداء الانفصال عن الواقع هذا هو السفر وإجراء المقابلات بشكل مستمر، وإيلاء الانتباه الشديد للبيانات على الصعيدين المحلي والولائي، والتحلي بالتواضع بشأن حقيقة أن المواقف والدرجات الجامعية التي نعتقد أنها تجعل المرء أذكى، هي في الحقيقة المواقف والدرجات الجامعية التي تفصله عن النسيج الحقيقي للحياة الأميركية.
بايدن لم يصل إلى ذلك نتيجة الحظ، لكنه وفريقه فهموا ست حقائق:
فأولاً؛ على المرء أن يفهم العام الذي يترشح فيه للانتخابات. واللافت هنا أن ساندرز وإيليزابيث وارن يديران الحملة نفسها التي كانا سيديرانها في 2012 أو 2016. أما حملة بايدن، فتركز كلياً على مشكلة 2020 المركزية: إن دونالد ترامب عبارة عن فوضى كبيرة وسط الحياة الوطنية. فقد ركز بايدن حملته على مشكلة ترامب والكفاح من أجل روح أميركا. ذلك أن ضعف عدد الديمقراطيين، تقريباً، يقولون إن هزيمة ترامب أهم بالنسبة لهم من أن يكون لديهم مرشح يتفقون معه حول كل المواضيع.
ثانياً: على المرء أن يفهم التحدي الجوهري الذي يواجه حزبه. فعبر العالم كله، أخذت أحزاب اليسار تخسر في الانتخابات لأنها فقدت الاتصال مع الطبقة العاملة. هذه الأحزاب تعتقد أنها تستطيع إعادة ربط الاتصال مع تلك الطبقة والتواصل معها من جديد، عبر الميل نحو اليسار أكثر. ولكن جيريمي كوربن في بريطانيا، وبيرني ساندرز هنا في الولايات المتحدة، هما فكرة طالب دكتوراه عن مرشح الطبقة العاملة، وليست فكرة شخص عامل عن مرشح الطبقة العاملة. وبايدن انتقد حزبه لأنه فقد الاتصال مع هذه الطبقة. الحزب نفسه الذي خرج منه، ويركز اهتمامه عليه، ويحصل منه على الدعم.
ثالثا: إن المعتدلين ما زالوا أقوياء. صحيح أن الحزب اليساري أخذ يميل يساراً، لكن نحو نصف الديمقراطيين ما زالوا يقولون إنهم معتدلون أو محافظون. ولم يسبق لأي مرشح أبداً أن فاز بالترشيح من دون دعم قوي من هؤلاء الناخبين. وبايدن عرف كيف يحافظ على مؤهلاته المحافظة، في وقت رأى فيه مرشحون آخرون كثيرون النائبةَ ألكسندريا أوكازيو كورتيز على تويتر وقرروا الميل يساراً.
رابعاً: إن الكثير من الديمقراطيين مستاؤون من نخبهم. فهناك توتر صامت بين الديمقراطيين الذين يمارسون سلطة ثقافية وأولئك الذين لا يمارسونها. الفريق الأول نشط على وسائل التواصل الاجتماعي وينتقد الفريق الثاني بشدة؛ أي الأشخاص الذين يقولون الشيء «الخطأ» أو يكتبونه.
خامساً: ينبغي أن تكون لدى المرء نظرية أحسن عن التغيير الاجتماعي. فساندرز ووارن يتخيلان أنهما يستطيعان حشد حركات أغلبيات كبيرة تقدمية لتحويل المشهد السياسي الأميركي. والحقيقة أنه إذا انتُخبا، سنصبح عالقين في الحرب السياسية الراكدة نفسها التي لدينا الآن.
سادساً: إن بايدن يبدأ بالوعي بكوننا أمة منقسمة على نفسها. كما أنه يدرك الحقيقة الجوهرية المتمثلة في أنه إذا كان المرء يريد تمرير قوانين، فعليه أن يمر عبر الكونجرس. ومثلما قال دايمون لينكر مؤخراً في مجلة «ذا ويك»، فإن حجة بايدن هي أن ائتلافاً في الكونجرس من يسار الوسط هو أفضل ما يمكننا فعله تحت الظروف الراهنة. وتلك نظرية تغيير أكثر واقعية. والأكيد أن مشرِّعاً محبوباً مثل بايدن، من المحتمل أن يغيِّر المشهد السياسي أكثر من تقدمي على اليسار.
الاتصال. الاتصال. ثم الاتصال. إن مرشحين كثيرين يضربون على المنبر ويحاضرون على الحشود. إنه الزعيم الكبير على المنصة وجمهور المتابعين في الأسفل تحته ينصتون. لكن لا أحد يجيد ربط اتصال فردي مع الناس على نحو ما يفعل بايدن. وفي وقت يشعر فيه الناس بالإنهاك والعزلة والتهميش، فإن المرشح الذي يبدو طبيعياً ويمكن التواصل والتجاوب معه عاطفياً سيكون أكثر جاذبية.
والحقيقة المثيرة للسخرية، هي أن المرشح الذي يمكن أن يكون ضعيفاً وهشاً يملك قوة مفاجئة!

*كاتب أميركي
ينشر بترتيب خاص مع خدمة «نيويورك تايمز»

Canonical URL: https://www.nytimes.com/2020/01/23/opinion/joe-biden-2020.html