مما دأب عليه بعض الناس أن تكون لهم منصاتهم الحرة التي يعبّرون من خلالها عما يشعرون به أو يقاسونه، كما يعرضون على جدارها بعض تجاربهم التي يسعون بها إلى نفع غيرهم. لكن كثيراً من هذه المنصات لا يُعَد معيناً فكرياً أو مصدراً ثقافياً، أو حتى فرصة لالتقاء الأفكار الناضجة والمتوازنة في العمق المختلفة في الاتجاه.
ولا يبدو أن منصات التواصل الاجتماعي تمثل ساحات صانعة للمفكرين والمثقفين، بل على العكس من ذلك، إذ أسهمت هذه المنصات بشكل مباشر في تسطيح الأفكار وتحويلها إلى معلومات سريعة تتراكم في كل لحظة آلاف منها، ما يعني أنها تحولت إلى هامش بعد ثوان من نشرها. لذلك فالفكر لا تصنعه حسابات «فيسبوك» أو «تويتر»، المنصتان اللتان تحولتا إلى فرصة لاستعراض المعلومات وعرض عضلات ثقافية ومعرفية مصطنعة في أغلب الأحيان وغير حقيقية.
إن المثقف الحقيقي هو من تأسست ثقافته على قاعدة فكرية صلبة ومتماسكة من عوامل الوعي المتعددة، دون استعراض أو ادعاء أو تكرار لأقوال غيره. وإنتاج المفكرين في أي مجتمع يعكس وعي هذا المجتمع وقدرته على قراءة ماضيه واستشراف مستقبله بشكل يحدد من خلاله لماذا كان الفكر سفينة الأمان لنجاح الأفكار وتداولها وبناء حياة عقلية صحيحة وسليمة وخالية من أوهام الحس وأخطاء الإدراك وعدم التعامل مع معطيات الواقع. ولعل منصات التواصل الاجتماعي كانت سبباً في كشف فراغ كثير من الأشخاص، وكونهم مجرد أصوات عالية دون مضمون أو معنى.
وربما كان ذلك سبباً لعزوف كثيرين من أصحاب الفكر والرأي عن الخوض في لجة وسائط التواصل الاجتماعي وبحرها متلاطم الأمواج، والذي لا يأتي غالباً إلا بالغث وغير السمين.
من هنا كان من الضرورة بمكان أن تصل وسائل التواصل الاجتماعي لمرحلة الفرز، أي فرز الغث من السمين، المتمكن من الضعيف، المتعاطي في عمق المعنى من الذي لا يمكنه استيعاب معنى مفردة «عميق».
لقد مثّلت هذه المنصات فرصةً لسبر غور الثقافة ونشر عناوين آخر الكتب والإصدارات، لكنها لم تكن في الغالب فرصة لقراءة الكتب والحديث عنها وإجلاء غوامضها وتقريب بعيدها.. وإنما كانت سبباً في انتشار الكتاب (عنوانه وصورة غلافه) فحسب، دون قراءة مضمونه واستيعاب مكنونه.
لقد أعطينا هذه المنصات الكثير من الوقت والاهتمام، بينما هي في الواقع سارق كبير للعقول والتركيز ومسرح استعراضي لأصحاب الأدوار الثانوية ومدّعي البطولة زوراً وبهتاناً. ويبدو أننا مَن أعطاها هذا الزخم وسمح لها أن تحتل هذه المساحات الشاسعة من ساعات يومنا الثمينة.. وأننا نحن من صفّقنا للكومبارس وصدّق أهميته وأنه من أصحاب البطولات.

*كاتبة إماراتية