لم‎ تعد آفة حارتنا النسيان كما أشار ذات مرة أديب نوبل الكبير نجيب محفوظ قبل خمسة عقود ونيف، بل باتت الآفة التي تتهدد الزرع والضرع، هي لغة العنف وسفك الدماء، واشتعال الحروب، الأمر الذي بات العالم معه على شفا حرب عالمية جديدة، إن لم نكن بالفعل نعيشها بالتجزئة كما أشار ذات مرة مؤخراً البابا فرنسيس بابا الكنيسة الكاثوليكية.
‎ وسط هذه الأجواء يتساءل المراقبون: وماذا عن دور الأديان، لا سيما الإبراهيمية منها، تلك التي يجمعها عقد واحد، أبوة إبراهيم الخليل عليه السلام، وتتسق في الثوابت وفي المقدمة منها رفض القتل والسطوة والقوة الغاشمة، وتعلي من شأن السلام ومفاعيله باعتباره الأداة فائقة الأهمية في طريق مواجهة شرور الحاضر، وآلية تجنب مخاطر المستقبل وقطع الطريق على بوادر الصراعات والنزاعات؟
على‎ مدى الفترة الزمنية الممتدة ما بين الرابع عشر والسادس عشر من يناير الجاري، التقى نحو عشرين قائداً روحياً يمثلون الإسلام واليهودية والمسيحية، على أرض الجامعة «الغريغوريانية» في روما لمناقشة أزمة العنف المعاصر، وما يمكن أن تقوم به الأديان الإبراهيمية في مواجهة ومجابهة هذا الخطر القائم والقادم.
النقاشات‎ التي دارت بين القادة الروحيين، أبناء إبراهيم، كانت مؤسسة على عمق الطروحات والشروحات الإيمانية للإسلام والمسيحية واليهودية، الساعية لتغليب السلام على الخصام، وبالتالي دفع العنف في زاوية بعيدة عن متناول الأيادي، ومن أجل أن تتحول سيوفهم سككاً ورماحهم مناجل، كما هو مكتوب في التوراة، وهي الكلمات القائمة على حائط أشعياء المواجه لمبنى الأمم المتحدة في مدينة نيويورك على نهر الهدسون.
ما‎ الذي يهدف إليه هذا اللقاء بصورة أعمق؟ لقاء‎ الجامعة البابوية «الغريغوريانا» مرتبط في الأصل بفكرة «مبادرة الأديان الإبراهيمية»، والتي يرجع الفضل فيها للحاخام «م.بروس لوستيج»، والذي يعد كبير الحاخامات في المجمع العبري بواشنطن لأكثر من 25 عاماً، شغل فيها عدداً من المهام والمسؤوليات اليومية المتمثلة في قيادة أكثر من 2800 تجمع عائلي، بالإضافة إلى أدوار قيادية في المجتمعات اليهودية والمحلية والدولية، ويعد ناشطاً اجتماعياً ملتزماً لا متزمتاً، وأحد أكثر الحاخامات نفوذاً في أميركا.
أسس‎ الحاخام «لوستيج» أول قمة إبراهيمية بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر، قادت بعدها إلى تأسيس أول لقاء طاولة مستديرة إبراهيمية جمعت بين المسيحيين واليهود والمسلمين، من أجل الحوار، وذلك بالتعاون مع الأسقف «جون شان»، والإمام البروفيسور «أكبر آمد»، وقد تم اختياره مؤخراً كعضو في اللجنة التي تشكلت لمتابعة أعمال «وثيقة الأخوّة الإنسانية»، التي تم توقيعها في دولة الإمارات العربية المتحدة في فبراير الماضي، بإشراف الدولة ونشأت في رعاية بابا الفاتيكان البابا فرنسيس، وشيخ الأزهر الشريف فضيلة الإمام الدكتور أحمد الطيب.
لقاء‎ الغريغوريانا كان هدفه الرئيس الإشارة إلى العلاقة بين الإيمان واللاعنف، الإيمان بمفهومه الإنساني الشامل الذي يتعاطف مع الطبيعة ومع الخليقة كلها بما فيها من كائنات حية، وفي مقدمتها الإنسان الذي كرمه الله سبحانه وتعالى.
ثلاثة‎ أيام من النقاشات الخصبة بين القساوسة والأساقفة، الحاخامات والمشايخ، بحثوا فيها وبإرادة صادقة طيبة كيفية تعزيز الاحترام المشترك والتسامح والتفاهم بين تقاليد الإيمان الإبراهيمي في البحث عن حرية دينية أكبر، واستقرار السلام العالمي، الذي بات مهدداً من جراء الأطماع البشرية، والسعي وراء الهيمنة وتحقيق الثراء الاقتصادي، ما أدخل العالم، للأسف الشديد، إلى دائرة الرأسمالية المتوحشة.
لم‎ يكن لمثل هذا التجمع ألا يلتقي البابا فرنسيس، والذي استقبل أعضاء المؤتمر العشرين في «نزل سانتا مارتا»، حيث يقيم فقيراً متجرداً حتى الساعة في غرفتين بسيطتين، ورافضاً السكن في المسكن المخصص للبابوات في القصر الرسولي، ورافعاً شعار «شعبي فقير وأنا منهم»، قاصداً بذلك أهله وذويه في الأرجنتين.
عقب‎ اللقاء صرح الحاخام «دافيد روزن» المدير الدولي للشؤون بين الأديان التابعة للجنة اليهودية الأميركية قائلاً: «إن البابا فرنسيس أكد على أن الأخوة يجب أن تكون هي الهدف الأسمى الذي ينبغي أن نسعى إليه، الأمر الذي يعني أننا في حاجة إلى تقوية أواصر الصلات فيما بيننا».
يمكن‎ القطع أن لقاء «الغريغوريانا» لهو لقاء نخبوي، وعلى قلة عدد المشاركين فيه إلا أن القيمة الكبرى لكل منهم تتمثل في قدرته على توجيه دفة الأحداث في قادم الأيام.
من‎ بين المشاركين في اللقاء من دولة الإمارات العربية المتحدة فضيلة الشيخ عبد الله بن بيه رئيس منتدى تعزيز السلم في المجتمعات المسلمة ، والحاخام ريكاردو سيني حاخام روما، وبطريرك القدس وسائر فلسطين للروم الأرثوذكس «تيوفيلوس الثالث» بالإضافة إلى الكاردينال «ميغيل انخل غويكسوت» رئيس المجلس الحبري للحوار بين الأديان.
هل‎ يستجيب العالم لنداء اللاعنف؟
*كاتب مصري