يتوقع أن يصاحب التحولات التكنولوجية والاقتصادية الكبرى نشوء فلسفة (بمعنى المبادئ والأفكار الأساسية) جديدة تساعد الأمم في إدراك حقائق الأشياء والمعاني والمفاهيم التي تدور حولها الحياة المتشكلة. وعلى سبيل المثال، فإن قيم العدالة والحرية المؤسسة للحضارة الإنسانية تتعرض أكثر من أية فترة ماضية لإعادة البحث والتأمل، ويتبعها بطبيعة الحال جدالات طويلة ومراجعات عميقة للمجال العام المنظم لتفاعل الثقافات والأفكار والقيم، أخذاً بالاعتبار التداخل والتعدد الذي أحدثته العولمة، والفرص الناشئة عن تدفق المعرفة وتشكلها وإتاحتها، بعيداً عن المؤسسات التقليدية التي كانت تتحكم بالمعرفة مثل المؤسسات الإعلامية والتعليمية والإرشادية والدينية.
لقد شهدت المعرفة في العقود القليلة الماضية عمليات تنظيم واسعة ومعقدة، ولكنها ظلت تعمل وتتحرك في فضاء مفتوح يتجاوز المدارس والجامعات والصحف والمعابد، وتنشأ اليوم أفكار مستقلة ومختلفة تدور حول الإنسان الذي يعلم نفسه بنفسه، ويعمل بنفسه لنفسه، ويداوي نفسه بنفسه، وفي الوقت نفسه فإنها عمليات معرفية وتعليمية يحيط بها الغموض والفوضى وضعف الثقة، ولا نعرف بعد كيف ندير وننظم مجالاً عاماً يشارك فيه جميع الناس، ففي عالم استقر على أن تعلم فئة من المتخصصين فئة أخرى من طالبي المعرفة والتعلم، يتعلم الناس اليوم معاً، بلا وضوح أو تمايز بين المعلمين والمتعلمين، أو بعبارة أخرى فإن الطبقات الجديدة الملهمة لم تظهر بعد، ولم تعد المؤسسات والطبقات السائدة تصلح لقيادة الأجيال وإلهامها. وفي الأردن على سبيل المثال، حيث كان حتى فترة ماضية قريبة يصوغ المشهد الأدبي مجموعة معروفة ومحددة من الأدباء والمثقفين، وكان في وسع معظم المتابعين معرفة وتقييم الشعراء والروائيين والنقاد وتذوق أعمالهم، أصبح المشهد اليوم مزدحماً بمئات المؤلفين والكتاب الذين قدموا عدداً هائلاً، في السنوات القليلة الماضية، من الروايات ودواوين الشعر والأعمال الأدبية، على نحو لم يعد في وسع مثقف أو ناقد الإحاطة بالمشهد أو تقييمه أو حتى استيعابه، ولا يمكن بالطبع تنظيم عمليات النشر والإبداع على أسس تقييمية للمحتوى والمستوى الفني والأدبي لما يقدم، إضافة إلى أن شبكة الإنترنت والتواصل الاجتماعي تفيض بالمحتوى الأدبي والفني والذي يقدم نفسه إلى المتابعين على أنه إبداع أدبي.
وللأمانة، فقد أظهرت شبكات التواصل الاجتماعي مجموعة كبيرة من الكتاب والمبدعين الذين لم يكن يتاح لهم الوصول إلى المجلات والملاحق الثقافية والأدبية في الصحف ووسائل الإعلام والنشر التقليدية. ولكن أيضاً هناك أعداد هائلة جداً لا يمكن حصرها أو نقدها ممن تقدم إلى الفضاء منتجات فكرية وأدبية بكميات تفوق الوصف والاستيعاب.
لكن وفي الوقت نفسه، يتسع عالم المعرفة والأفكار بسرعة هائلة ويتشكل مثل قارات تتمدد في أنحاء شاسعة ومجهولة، وصارت المعرفة السابقة لعصر الشبكية ضئيلة وضحلة ومنتهية الصلاحية، وتبدو مثيرة للسخرية والأسى جموع المثقفين والأكاديميين والباحثين والكتاب وطلبة الجامعات والدراسات والعليا، وهي تجتر معرفة صارت تاريخية، وتتجاهل أو لا تعلم عن المعارف والمهارات والأفكار الجديدة الناشئة والمتشكلة في الشبكة وحولها. هكذا يتشكل عالم جديد، وتنشئ فيه أجيال جديدة حياتها وأفكارها وقيمها، مستقلة عن عالم اليوم المتجه إلى الأفول والانحسار.
الشباب الذين يتعلمون اليوم من الشبكة مستقلين عن المدارس والجامعات، والذين يبيعون ويشترون من خلال الشبكة، بعيداً عن الوكالات والمحلات والمكاتب التجارية والمولات القائمة، ويتبادلون الآراء والمعارف والأفكار ويتحاورون ويتجادلون، بعيداً عن الصحف والإذاعات والتلفزيونات، والذين لا يقرؤون الكتب التي تنشر والصحف التي تطبع في بلادهم، كما لا يستمعون إلى إذاعاتها وتلفزيوناتها، لكنهم في الوقت نفسه منخرطون في عمليات تفاعل ونقاش وإنتاج واستماع وقراءة وتعلم وتعليم وتصميم وبيع وتسويق ولعب وحوار، مستقلة ومختلفة عما يجري في عالم الواقع أو في مؤسسات وشبكات الجيل السابق، هم في واقع الحال ينشئون عالماً جديداً مختلفاً، ويشكلون أفكارهم وعلاقاتهم المختلفة والمستقلة عما تشكل في عمليات مركزية وتنظيمية للمجتمعات والأسر والمدارس، والحال أن ثمة حضارتين اليوم تعملان في فضاء واحد، لكنهما مختلفتان عن بعضها البعض. وحتماً، فإن الحضارة الجديدة الزاحفة والمتشكلة تزيح الحضارة السائدة. وبطبيعة الحال، فإن إنساناً جديداً يظهر ويسود، ويختفي إنسان اليوم.
لا نجزم وليس لدينا اليوم سوى توقعات ومقترحات عن أخلاق العمل وما يفكر فيه الجيل القادم من المعلمين والمبرمجين والأطباء والممرضين والصيادين، وهي أخلاقيات لا نعرف إلى أي مدى يساهم في صياغتها وتكريسها الفلاسفة، وفي عبارة أخرى، فإننا نتوقع فلسفةً أخلاقيةً جديدةً وفلاسفةً جدداً، يقدمون أفكاراً وقيماً للمساواة والحريات والعدالة، وتنظيم العلاقات وحلّ المشكلات والخلافات، فهي في عالم طاقة الرياح، مثلاً، ليست هي في الطاقة النفطية، وفي مزارع البكتيريا وتجارتها، ليست كما هي في مزارع الإبل والبقر والغنم، يمكن أن نلاحظ مثلاً، كيف صار الأثر البيئي مرجعاً تشريعياً وأخلاقيا في تنظيم الأعمال والمؤسسات.