يعد التوصل إلى حل للنزاع المدني الدائر في ليبيا معضلةً يصعب التعامل معها. وقد حاولت سلسلة من القوى العالمية والإقليمية الجمع بين الأطراف المتحاربة، وكانت روسيا آخر من حاول، لكنها فشلت في موسكو يوم الاثنين. والآن حان دور ألمانيا، وإذا فشلت أيضاً، من المرجح أن تستمر الأزمة حتى انهيار أحد الفصيلين أو كلاهما. وتقدم اللعبة المعقدة والمتعددة الجوانب نافذة على الكيفية التي ستجري بها الأمور في عالم جديد ما بعد «السلام الأميركي». ومن الصعب استبدال الولايات المتحدة الحازمة، الغائبة عن المداولات حول ليبيا وكذلك عن العمل على أرض الواقع.
لقد كانت محادثات موسكو ترمي إلى تعزيز وقفٍ هش لإطلاق النار حول العاصمة الليبية، طرابلس. ومنذ شهر أبريل، كانت قوات الجنرال خليفة حفتر تحاول السيطرة على المدينة من حكومة الوفاق الوطني بقيادة فايز السراج.
من جانبه، يدعم الرئيس التركي رجب طيب أردوغان السراج بشكل لا لبس فيه، ويرجع هذا في جزء كبير منه إلى المعاهدة المثيرة للجدل التي وقع عليها الطرفان بشأن ترسيم حدودهما البحرية في البحر المتوسط، وتعزيز مطالباتهما بالحصول على ترسبات الغاز الطبيعي التي تعتبرها قبرص واليونان ومصر أيضاً ملكاً لها. كما أرسل أردوغان عدداً صغيراً من القوات إلى ليبيا لتدريب قوات السراج.
أما روسيا، فهي تحاول العمل مع الجانبين كجزء من سياسة الرئيس فلاديمير بوتين، القائمة على المصالح في الشرق الأوسط وأفريقيا. فكل ما يعمل لصالح صناعات النفط والأسلحة الروسية يعمل لصالح روسيا أيضاً. في النهاية، يريد بوتين حكومة مستقرة في ليبيا تستطيع موسكو بناء علاقة معها. والرهان الأثقل الذي يبدو أن الكرملين وضعه على حفتر تفسره فقط المساحة الأكبر التي يسيطر عليها. لكن عدم وجود التزام واضح من جانب بوتين، وعلاقته الجيدة مع أردوغان، يعني عدم السيطرة على حفتر، الذي ترك موسكو مساء الاثنين دون توقيع اتفاق لوقف إطلاق النار الذي وقعه السراج بالفعل.
وفي عام 2017، استضاف الرئيس الفرنسي «إيمانويل ماكرون» حفتر والسراج بالقرب من باريس، وجعلهما يوافقان على وقف إطلاق النار –الذي لم يستمر. ومنع ماكرون بيان الاتحاد الأوروبي الذي يدعو حفتر إلى وقف هجومه على طرابلس.
أما إيطاليا، التي تعتبر نفسها وسيط أوروبا الطبيعي في العلاقات مع مستعمرتها السابقة، فقد عقدت اجتماعاً بين حفتر والسراج في باليرمو في نوفمبر 2018، لكن الاجتماع لم يكن حاسماً. وحافظت إيطاليا على حيادها الصارم في ليبيا، لكن مصلحتها الرئيسية تتمثل في الحد من تدفق المهاجرين غير الشرعيين، الذين يصلون في الغالب إلى الجزر الإيطالية حال إبحارهم من الساحل الليبي. وقد جعلها هذا على اتصال وثيق مع حكومة السراج، التي تسيطر على خفر السواحل الليبي. وفي الأسبوع الماضي، انهارت محاولة رئيس الوزراء «جوسيبي كونتي» لتنظيم اجتماع آخر في إيطاليا.
وهكذا، لم تتمكن أي قوة أجنبية حاولت التوسط في المحادثات بين السراج وحفتر من ممارسة الضغط الكافي على أي جانب لجعل الحل السلمي ممكناً. هذا هو نوع الجمود الذي كان يمكن للولايات المتحدة، عندما كانت هناك قوة عظمى واحدة في العالم، كسره –للأفضل أو للأسوأ –من خلال الوقوف مع أحد الجانبين. إن الولايات المتحدة لديها وجود عسكري محدود في ليبيا، يعمل من حين لآخر ضد الجماعات الإرهابية هناك. وليبيا، الدولة التي تتمتع بأكبر احتياطي نفطي في أفريقيا، تمثل أهمية لاستقرار أسعار النفط، الأمر الذي يعد مصلحة جيوسياسية رئيسية لأميركا، وكذلك للقتال ضد انتشار الإرهاب الإسلامي. إن حفتر شخص تستطيع الولايات المتحدة التحدث إليه.
ومع ذلك، رفض الرئيس دونالد ترامب اللعب وفقاً لقواعد السلام الأميركي القديمة. فقد قال صراحة في عام 2017: «لا أرى دوراً في ليبيا. أعتقد أن الولايات المتحدة لديها الآن أدوار كافية». وقد تقلص الوجود العسكري الأميركي بالفعل، عندما بدأ حفتر هجومه على طرابلس العام الماضي. وهذا بعيد كل البعد عن تدخل الولايات المتحدة، على سبيل المثال، في تشكيل نتائج حرب البلقان أو دورها في حمل القادة الإسرائيليين والمصريين على التوصل إلى اتفاق سلام في عام 1978.
إن غياب قوة مهيمنة قادرة على تغيير ميزان القوى على أرض الواقع، يجعل مؤتمر ليبيا المنعقد في برلين مهمة صعبة. وحتى مهارات الإقناع التي تتمتع بها المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، ربما لا تكون كافية لكسر الجمود بطريقة ترضي الخصوم الليبيين.
وبالرغم من كل المصالح الأجنبية المتضاربة وكل محاولات القوى الأجنبية للوساطة، فإن الحل الدائم للأزمة الليبية يقع على عاتق الليبيين أنفسهم. فهم بحاجة إلى التوصل لاتفاق لتوحيد البلاد قبل استغلال الميليشيات لهذه الحالة من الجمود، وتتسبب في استمرار حالة من الفوضى.
*كاتب روسي مقيم في برلين
ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس»