مضت على الاحتجاجات في العراق نحو الشهور الخمسة، ومضت عليها ثلاثة شهور في لبنان. وفي حين ووجهت بالعنف منذ الأيام الأولى بالعراق، وسقط مئات القتلى، وآلاف الجرحى، والموقوفين، فإنّ الاحتجاجات اللبنانية كانت احتجاجات أهازيج وفرح، وما داخلها العنف إلا في الأيام الأخيرة.
والأمر الوحيد الذي حدث هو استقالة الحريري رئيس الحكومة (بعد اثني عشر يوماً)، بينما استقال عادل عبد المهدي رئيس حكومة العراق بعد شهرين.
في العراق كانت شكاوى المتظاهرين واضحة: سوء الأحوال المعيشية، وتهالك البنى الأساسية، وفقد فُرص العمل، والفساد المستشري.. مع المطالبة بحكومة جديدة وانتخابات مبكرة.
أما في لبنان فكانت أوضح المطالب: الحكومة الجديدة، إيقاف الأزمة المالية والاقتصادية، ومحاسبة الفاسدين.
ولنلاحظ أمراً آخر؛ فالمتظاهرون في العراق معظمهم من الفقراء والعاطلين عن العمل، والذين ضاقت عليهم سُبُل المعيشة. أما في لبنان فإنّ شباب الطبقة الوسطى وطلاب الجامعات وأساتذتها هم الذين افتتحوا «الثورة».
وفي العراق أجابت الميليشيات بالعنف فوراً، وهي معروفة التبعية. لذلك جاءت الشعارات والهتافات ضد الداعمين الإقليميين لهذه الميليشيات، كما توالت الهجمات على المؤسسات والجهات التابعة لهم. أما في لبنان فانصبت الشعارات على الفساد، وجرى تناوُل شخصيات بعينها أبرزها رئيس البرلمان نبيه بري ووزير الخارجية جبران باسيل. لذا، وبعد حَدَث استراحة صور، وإدارة كهرباء لبنان، تعرض المتظاهرون للتحرش من جانب أنصار بري وأنصار باسيل. ثم عندما هدّد زعيم «حزب الله» المتظاهرين في عدة خطابات، ظهرت شعارات ضد الحزب وداعميه. وحين توقف «نصرالله» عن التعرض، خفتت الشعارات والهتافات ضده. ثم أعرض أنصار بري عن المجابهة، فخفتت الشعارات ضده أيضاً، وتتجه هذه الأيام للمؤسسات.
في العراق إذن كان التكتيك حتى من جانب الحكومة محاولة إخماد التظاهرات بالقوة، مع تظاهر رئيس الحكومة بمحاولة الاستجابة لبعض المطالب. أما في لبنان فالتكتيك كان المطاولة وعدم استخدام العنف، رجاء أن تخفّ التظاهرات ويمل المتظاهرون، إلى أن حدثت تطوراتٌ مفاجئة ومختلفة في البلدين.
في العراق ظلّ الحاكمون موحَّدين (وكلهم ما عدا رئيس الوزراء عندهم ميليشيات). أما في لبنان فحدث انقسام شديد بين الحريري مع باسيل ثم مع رئيس الجمهورية، إذ نشأت شبه قطيعة بين الطرفين، وما عادت هناك صلة مباشرة.
أما التطورات المستجدة فهي انفجار الصراع بين أميركا وإيران على أرض العراق، حيث انحاز الحاكمون في العراق لإيران ضد الولايات المتحدة، وطالبوا القوات الأميركية بالانسحاب من البلاد بعد أن عادت إليها بطلبٍ منهم عام 2015. ورجوا من ناحية أُخرى أن تخمد تظاهرات الشباب بداعي النضال الوطني ضد الأميركيين، وهو ما لم يحدث. لذلك صار الطرفان: المتظاهرون والميليشياويون، أكثر حدّة، جرّاء الارتباك الشديد لدى الحاكمين وداعميهم، وإحساس المتظاهرين بأنّ مطالبهم لن تُلبى رغم كل المظاهر.
أما التطور المفاجئ في لبنان فكان تخلّي العونيين والثنائي الشيعي عن الحريري، وتكليف أستاذ جامعي هو حسان دياب بتشكيل الحكومة الجديدة.
وما قلّت أعداد المتظاهرين بالعراق إلاّ لعدة أيامٍ بعد الأحداث العاصفة، وفي الغالب صار التمركز خارج بغداد. أما في لبنان فقلّت لأُسبوعين، وعندما عادت للظهور فإن فئات الفقراء والمعدمين بسبب الأزمة المالية والمعيشية الطاحنة صارت هي الغالبة، وبخاصة أنّ هؤلاء يقودهم ناشطون عقائديون، ويتجهون لسدّ الطرقات، ومهاجمة المؤسسات العامة، فتزايدت اشتباكاتهم مع القوى الأمنية، ومع الجيش الذي يحاول فتح الطرقات، وحماية المؤسسات والبنوك والأملاك الخاصة.
في العراق يميل الحاكمون لتعويم حكومة عبدالمهدي المستقيلة، أما في لبنان فإنّ «دياب» ما نجح في إقناع رئيس الجمهورية بقبول تشكيلاته المتعاقبة. وفي حين صار هناك في العراق نزاعان تتزايد حدتهما: بين الحكومة العراقية وأميركا، وبين المتظاهرين والحكومة، فإنّ لبنان لا كلام فيه، ولا نصائح من الجهات الدولية إلا بالإسراع في تشكيل الحكومة أو يتفاقم الانهيار على كل المستويات.
لا انفراج في أفق البلدين، لكنّ المرارة شديدة جداً: من جانب المحتجين الذين ما تحقق شيء من مطالبهم. ومن جانب الحاكمين الذين يحسون بالفشل والعجز ويفكرون في كيفية الهروب هم وأموالهم إلى الفضاء المسدود في وجوههم، والذي يزداد سواداً وقتامة! ولله في خلقه شؤون!

*أستاذ الدراسات الإسلامية بالجامعة اللبنانية -بيروت