تحت أثر الحضارات الأخرى نشأ الاتجاه العقلاني في اليهودية منذ فيلون السكندري بفضل الحضارة اليونانية، وسعيد بن يوسف الفيومي وموسى بن ميمون والقراؤون بفضل الحضارة الإسلامية، واسبينوزا ومندلسون بفضل الحضارة الغربية الحديثة. العقل يأتي من الخارج وبفضل مؤثرات خارجية، إذ غلب على الداخل الفقه والتصوف، «الحلقه» و«الهجاده». وكان أول المتأثرين بالحضارة الإسلامية سعيد بين يوسف الفيومي في كتابه «الأمانات والاعتقادات» الذي صاغ فيه لأول مرة نسقاً للعقائد اليهودية على نموذج النسق الإسلامي الأشعري؛ العقليات والسمعيات أو الإلهيات والنبوات. ومن السمعيات أو النبوات «الاختيار» و«المعاد»، وهما خارج حدود العقل. وهو نفسه موقف إسحق الإسرائيلي في «الكوزاري»، إذ أيّد «الدين» بالعقل وعندما أتى إلى «الاختيار» و«الوعد» استسلم للإيمان. أما علم الأخلاق فهو علم بواطن القلوب.
ويعتبر موسى بن ميمون ممثل التيار العقلاني داخل الفلسفة اليهودية، وذلك لتأثره بالمعتزلة والفلاسفة المسلمين. ويظهر ذلك في «دلالة الحائرين». ويبدو الأثر الإسلامي واضحاً في الفصول التي عقدها ابن ميمون حول علم الكلام والمتكلمين. وهو يعترف بأن اليهود في المشرق أخذوا عن المعتزلة والأشاعرة، في حين أن يهود الأندلس أخذوا عن الفلاسفة، وظنوا أن أقوالهم برهانية، وهو قريب من رأي ابن رشد.
يرفض ابن ميمون جعل العقل عرضاً في جوهر فرد، وهو يعتمد على العقل في إثبات استحالة أقوال المتكلمين، ويعقد مناظرة خيالية بين متكلم وفيلسوف تظهر فيها أقاويل المتكلم خطبية جدلية، وأقاويل الفيلسوف برهانية.
ومن وسائل المعرفة الإدراك العقلي، وللعقل الإنساني مدارك في مقدوره وأخرى ليست في مقدوره. وفي الوجود أمور تدرك وأخرى لا تدرك وثالثة تدركها بعض حالاتها دون البعض الآخر. ويتفاضل البشر في القدرات الإدراكية بما فيها الاستنباط الذي قد يظهر لشخص ويختفي عند آخر. للعقل الإنساني حد، ومع ذلك لدى الإنسان شوق إلى إدراك ما لا يُدرَك، وعقل يبحث عما هو خارج عن حدوده.
وأسباب الاختلاف بين الناس عند الاسكندر الافروديسي ثلاثة: حب الرئاسة والغلبة التي تمنع من إدراك الحق، ولطافة الأمر المدرَك، وجهل المدرِك وقصوره. ويضيف ابن ميمون سبباً رابعاً هو الألفة والتربية، أي ما سماه بيكون بعد ذلك «الأوهام».
وتتأثر الإدراكات العقلية بموضوعاتها كما تتأثر الإدراكات الحسية طبقاً لدرجة التفكر والخواطر والقدرة على البرهان. وقد ينطفئ نور العقل بالخيالات الكاذبة، وضعف الروح المبصرة. وتؤكد الأدلة النقلية ذلك. ليس من أجل تعطيل العقل عن إدراك ما يمكن إدراكه، بل من أجل إثبات أن لعقول البشر حداً تقف عنده.
ولا يُعرف العلم الإلهي إلا بالأمثال والاستعارات وبقياس الغائب على الشاهد كما قال الفلاسفة المسلمون. وهو ما يحتم تأويل العقل لبيان معاني الأمثال النبوية والاستعارات المستعملة الهادفة إلى تربية الصغار والعامة والقاصرين عن الإدراك، وليس لكاملي الذهن المهيئين للنظر البرهاني والاستدلال العقلي. وتقوم على التخييل مما قد يحدث اضطرابات وتشويشات على العقيدة تؤدي إلى التعطيل أو التشبيه أو التجسيم كما هو الحال عند الحشوية المسلمين.
وفي الإلهيات، الله عقل وعاقل ومعقول، كما هو الحال عند ابن سينا. وهو عقل واحد لا كثرة فيه. والإنسان قبل أن يعقل شيئاً هو عقل بالقوة. فإن عقل أصبح عقلا بالفعل. والله عقل وعاقل بالفعل وليس بالقوة. يعقل ذاته لأنه صورة الكون. والملائكة عقول مفارقة كما هو الحال عند الفارابي وابن سينا.
ولا تظهر العقائد اليهودية الخاصة، «الاختيار» و«العهد» و«الوعد». صحيح أن موسى عليه السلام متفرد بين سائر الأنبياء في نزول الوحي عليه في سيناء، وأن معجزاته خاصة به، لكنها أيضاً تُظهِر فضائل الشريعة. فالشريعة تحض على الأخلاق، ومن مقاصدها صلاح النفس وصلاح البدن. وهي تعلّم الناس الحقيقة والأخلاق والسياسة. كما تهدف إلى معرفة الله ومحبته والخوف منه وإلى الخلاص من أغلال الشرك. والحكمة الحقيقية هي: إدراك الحقائق الموصلة إلى الله، وتحقيق الكمال الخلقي ثم الكمال الإنساني وهو الحصول على الفضائل النطقية أي تصور المعقولات الصحيحة المؤيدة لعقائد الإيمان.