هل تزعزع مفهوم الوطنية في سوريا؟ وهل فقد بعض السوريين شعورهم بالزهو والاعتداد بانتمائهم إلى سوريا (الوطن) مهد الحضارات وحاملة راية العروبة والسّباقة في الدعوة إلى الوحدة العربية، وإلى اعتبار دمشق قلب العروبة النابض والاعتزاز بكونها أقدم مدينة ما تزال مأهولة في التاريخ الإنساني؟ وهل اكتشف السوريون أن ما كانوا يفاخرون به من وحدة النسيج الوطني واللُحمة الوطنية كان مجرد ستارة مزركشة بنشوة مفتعلة تخفي تحتها تشظيات تاريخية لم تندمل جراحها على مدى أربعة عشر قرناً؟
أدرك أن السؤال محرج جداً، فلاشيء عند السوريين جميعاً أعز عليهم من انتمائهم إلى سوريتهم، وحسبنا ما وجدناه عند قدامى المغتربين السوريين وهم يعدون بالملايين، وأكثرهم عاش بعيداً جداً عن سوريا، ولكنه بقي على مر السنين فخوراً بانتمائه إلى وطنه الأم، ويحلم أن تكون مثواه الأخير، وأن يحتضنه ترابها مهما طال أمد اغترابه، ولقد كان إقبال المغتربين على المشاركة في مؤتمرات المغتربين المتعددة التي أقيمت في سوريا منذ بدء الألفية الراهنة مثيراً للاهتمام، ولم يكن مفاجئاً أن يعلن السوريون شعارهم الشهير يوم انطلقت تظاهراتهم المطالبة بالحرية والكرامة (الشعب السوري واحد، واحد)، وقد تجاوبت كل مناطق سوريا مع نداءات الحرية وتعاطف الجميع على اختلاف شرائحهم ومذاهبهم، مع هذا الشعار، وما تزال تدوي في ذاكرة الشعب هتافات (يا درعا نحن معاك للموت) وصارت هذه الأصداء تملأ الفضاء السوري في كل فناء، إلى أن امتدت يد إيران عبر «حزب الله» ترفع راية الثأر التاريخي، وسرعان ما ظهرت ردات أفعال بعضها عفوي وبعضها مفتعل تدعو إلى أسلمة الثورة، وخطف شعاراتها الوطنية، وكانت خطة مكافحة الثورة وقمعها هي تقديمها أمام المجتمع الدولي بأنها حركة إرهابية، وكان لابد لإثبات ذلك من اختراع «داعش» ومثيلاتها، ورافق ذلك انقسام شعبي كبير بين مؤيدي النظام وبين معارضيه، وأسهم هذا الانشقاق في تمزيق النسيج الوطني، على الرغم من وجود ممثلي كل الطوائف والمذاهب والأعراق في ضفتي الموالاة والمعارضة.
وكان مريباً أن ينادي المجتمع الدولي (صديق سوريا) بالاهتمام بحماية الأقليات، مما دفعني في مؤتمر عقد في واشنطن عام 2014 حول هذا الموضوع أن أسأل (من يهدد الأقليات في سوريا؟ وهل الدعوة إلى حمايتهم هي خوفهم من أهل السُنة مثلاً؟ أم أن هناك أقلية ما تشعر أنها ارتكبت ما يجعلها تخشى انتقاماً؟) وكان موقف ممثلي الأقليات وطنياً بامتياز، حين رفضوا هذه الدعوة التي تزيد من حدة الانقسام ومن تمزق الوحدة الوطنية، وكان من الرافضين وطنيون من العلويين والدروز والإسماعيليين والمسيحيين وسواهم.
أهم ما ينبغي أن يتمسك به السوريون جميعاً هو (سوريا الوطن) ولتبق بقية الانتماءات الدينية والمذهبية والعرقية خصوصيات ثقافية يحترمها الجميع، وكما أن فريقاً من الموالين اعتبروا النظام هو الوطن، واعتبروا السلطة هي الدولة، وبعضهم اختصر الوطن كله في شخص واحد، فإن فريقاً من المعارضة وقع فيما يماثل هذا الخطأ الضخم حين أخذه الانفعال والغضب إلى تطرف مماثل، وبات يطلق الأحكام الشمولية على الآخر، وأخذته المشاعر الدينية إلى حدود بعيدة عن المفاهيم الوطنية التي تضم الجميع، وتعترف بحق الاختلاف، وقد جسدت هذا الموقف التنظيمات الدينية التي وقعت في التطرف، وباعدت بينها وبين قوى المعارضة الوطنية ذاتها.
لا حل في سوريا إلا بالعودة إلى مفاهيم الوطنية السورية الأصيلة، والسوري الوطني لا يمكن أن يدعو إلى إبادة إدلب مثلاً، ولا يمكن أن يفرح لمقتل سوريين، ولا يشمت بمصاب أو فاجعة لمواطنيه، وقد آن للسوريين جميعاً أن يتفقوا على إنقاذ سوريا التي أصبحت مشاعاً دولياً تتقاذفها أيدي اللاعبين بمصيرها.
*وزير الثقافة السوري السابق