تعتبر المدن أحد أشكال الاستيطان البشري الدائمة ومرتفعة الكثافة السكانية، مقارنةً بالريف والقرى. وغالباً ما تتميز المدن بمنظومة واسعة من المنازل والمساكن، وسبل المواصلات، وببنية تحتية حديثة من نظم للصرف الصحي، وشبكات للمياه والكهرباء، وبوسائل الاتصال الحديثة وأماكن التسوق، وبالعديد من خيارات الترفيه. ويتيح هذا النوع من الاستيطان البشري، سهولة التواصل والتفاعل بين أفراد المجتمع وبين حكوماتهم وباقي مؤسسات المجتمعات البشرية في شكلها الحديث، مع توفر فرص العمل بدرجة أكبر في القطاعات الاقتصادية غير الزراعية.
ولذا أدت فوائد الحياة في المدن خلال القرون الماضية، وخصوصاً في العقود الأخيرة، إلى هجرة أعداد كبيرة من البشر من المناطق الريفية إلى المناطق الحضرية، ضمن ما يعرف بظاهرة التمدين. حيث تقدر الأمم المتحدة أن أكثر من نصف أفراد الجنس البشري يعيشون حالياً في مناطق حضرية، وأن عدد سكان المدن سيزيد بأكثر من مليار نسمة بنهاية العقد الحالي، مع التوقع بازدياد هذه النسبة بحلول 2050 إلى 64 في المئة في الدول النامية، وإلى 86 في المئة في الدول الصناعية.
وبناءً على ذلك، ستستضيف المدن عن قريب، وخصوصاً الكبرى منها، أكثر من 4 مليارات من أفراد الجنس البشري، وهو ما سيفرض بدوره نوعاً من التحديات على جوانب الحياة الإنسانية المختلفة: الاقتصادية، والبيئية، والاجتماعية، والصحية. فمثلاً، على الصعيد الاقتصادي، وكنتيجة للتزايد المطرد في عدد سكان المدن واكتظاظها، ستزداد تكلفة المعيشة، وسترتفع قيمة الإيجارات، مما سيخفِّض من نوعية الحياة التي يعيشها محدودو الدخل، وسيدفع بالمزيد من الفقراء للعيش في مدن الصفيح والمناطق العشوائية على أطراف المدن، حيث تتراجع مستويات الخدمات، وتنعدم فرص العمل، وتنتشر الجريمة وتعاطي المخدرات.. مما سيخلق هوةً تتفاقم مع مرور الوقت بين أحياء الأغنياء ومناطق سكن الفقراء. هذه الهوة بدورها ستؤدي إلى زعزعة الأمن والاستقرار الاجتماعي ذاته، وستهدد بقاء النظام برمته، وربما انهياره التام في شكل ثورات جياع لا تبقي ولا تذر.
وعلى الصعيد البيئي، يكفي أن نعلم أن منظمة الصحة العالمية، تصنّف مدى وشدة التلوث في غالبية مدن العالم على أنه «طارئ صحة عامة»، بناءً على حقيقة أن 91 في المئة منا يعيشون في مناطق تتعدى فيها نسبة التلوث الحدود القصوى المسموح بها. ووفقاً لدراسة نُشرت نتائجها في شهر أغسطس الماضي في العدد الأخير من مجلة الجمعية الطبية الأميركية (JAMA)، يتقارب حجم الضرر الواقع على الرئتين جرّاء الحياة في مدن ملَوَّثَة الهواء، مع حجم الضرر الناتج عن تدخين علبة من السجائر يومياً، ولمدة 29 عاماً.
وعلى النقيض من ذلك، فقد يرى البعض أن التمدين في حد ذاته له تأثيرات إيجابية على البيئة، وذلك بناءً على حقيقة أن معدلات الإنجاب تنخفض تلقائياً وباستمرار لمن ينتقلون من الريف إلى المدينة، مما يقلل من تأثير الزيادة السكانية الهائلة على البيئة الطبيعية، وهي زيادة تنتج في الغالب عن معدلات الإنجاب المرتفعة بين سكان الريف. كما أن الهجرة إلى المدينة، وما يصاحبها من زيادة في الدخل، وارتفاع في مستوى التعليم، تجعل أفراد المجتمع أكثر دراية بالمشاكل البيئية، وتدفعهم لتجنب السلوكيات التي تؤدي إلى تلوث المكونات البيئية المختلفة.
وإذا ما نظرنا إلى الجوانب الصحية للتمدين، وهي كثيرة بطبيعة الحال، فسنجد أن التمدين المتسارع في فترة وجيزة، لم يترجم في الواقع إلى زيادة في متوسط أو مؤمَّل العمر. بل في الحقيقة أدى هذا التمدين المتسارع إلى زيادة في الوفيات الناتجة عن الأمراض المزمنة غير المعدية، وهي الأمراض المعروف عنها ارتباطها بأسلوب الحياة، مثل أمراض القلب والشرايين، والأمراض السرطانية.
ولا يقتصر تأثير التمدين على الصحة الجسدية فقط، بل يمتد أيضاً إلى الصحة العقلية. فحسب دراسة حديثة، أجراها علماء جامعة أمستردام بهولندا، وتم من خلالها تحليل ومقارنة نتائج 20 دراسة سابقة أجريت على مدار 35 عاماً، تبين أن معدلات الإصابة بالاضطرابات النفسية تزداد بين قاطني المدن. وبالتحديد، فقد أظهرت هذه الدراسة أن سكان المدن يعانون من معدلات أكبر بكثير من اضطرابات المزاج والقلق. والمثير أنه عند مقارنة الحالة المزاجية لمن يتاح لهم التمتع بمساحات مفتوحة واسعة، كإطلالة على البحر مثلاً، تبين أنه مع كل ازدياد في مساحة هذه الإطلالة بنسبة 10 في المئة، انخفض معدل التوتر النفسي بمقدار ثلث نقطة، ولدرجة أن زيادة المتاح من المساحات المفتوحة والإطلالات البحرية قد ينقل الشخص من تصنيف التوتر المتوسط إلى تصنيف التوتر الخفيف.