ثمة تقدير بأن الثقافة تصعد في أهميتها وحضورها أكثر من أية فترة سابقة، ففي إدارة استيعاب التحولات الكبرى السريعة والعميقة التي تجري في عالم اليوم؛ تتشكل ضرورة لوعي جمعي متقدم قادر على أن يدرك قبل فوات الأوان الأولويات والضرورات المستجدة في إعادة التعليم والتأهيل وبناء المهارات والأعمال الجديدة، وأن يخفض المقاومة المتوقعة للتغيير الضروري والمطلوب، ففي كل واقع قائم تتشكل طبقات ومصالح حول هذا الواقع تتمسك به وتقاوم بطبيعة الحال التغيير المقترح والمصاحب للموارد والأعمال والتحولات الجديدة، وهذا يؤخر الاستجابات المطلوبة، ويعوق التكيف الضروري مع هذه التحولات والاستجابات.
إن الثقافة (وتشمل الوعي والذكاء الجمعي) تتشكل تلقائياً أو على نحو شبه تلقائي كمحصلة للمنظومات الاقتصادية والسياسية، فالأمم تتشكل حول أعمالها ومواردها ومصالحها واحتياجاتها، وفي ذلك تنشئ أنظمتها الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية، وتنشئ أيضا القيم التي تحمي هذه الموارد وتعظمها وتجددها. لكن التحدي الذي تواجهه الأمم اليوم وفي المستقبل القريب هو بناء وعي وذكاء جمعي سابق، بمعنى البدء بالوعي مصاحبا للموارد الجديدة، وعدم الانتظار حتى يتشكل تلقائيا بعد رسوخ واستقرار الموارد والأعمال ثم المنظومات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية الجديدة، وهي تبدو مهمة أكثر صعوبة وتعقيداً بالنسبة للأمم والأفراد أيضاً؛ كيف نستشرف المستقبل الذي لم نستوعبه بعد، والذي يتشكل على نحو منقطع الصلة بالماضي والحاضر (إلا قليلا منه) ثم كيف ننشئ الوعي والقيم والثقافات اللازمة لاستيعاب هذا المستقبل على النحو الذي يؤدي إلى الازدهار والسلام الاجتماعي؟
الحال أن الثقافة لم تعد فقط كما وصفها «ماكس فيبر» عاملاً مساعداً يدفع المجتمع نحو غاياته، أو كما يراها «كارل ماركس» ناتجاً فرعياً لطور الإنتاج السائد، أو كما يراها إميل دوركايم إحدى المؤسسات الاجتماعية، ففي التشكلات الناشئة اليوم بفعل تكنولوجيا المعلومات تحتاج سلسلة الاستجابة نفسها إلى تشكيل مختلف، إذ في عالم الزراعة والصناعة أنشأت الموارد والتقنيات أسواقا وأنظمة اقتصادية جديدة وهذه أنشأت منظومة سياسية ثم تشكلت مدن ومجتمعات وأخيراً نشأت الثقافة، لكننا اليوم في حاجة إلى البدء بالثقافة لتقود تشكيل السياسة والأسواق والمدن، لأنه بغير ذلك تدخل الأسواق والأعمال والمجتمعات في حالة من الفوضى والخوف والتطرف، ويصعب استيعاب الصدمة الناشئة بغير وعي جديد وبناء تشكلات اجتماعية وثقافية جديدة تمكن الدول والمجتمعات من إعادة تنظيم نفسها.
صحيح أننا لا نحيط بالمستقبل، بل إن هذه الإحاطة عملية أكثر صعوبة وتعقيداً بالنسبة للفكر الإنساني، الذي اعتاد أن يتصور المستقبل اعتماداً على استقراء التاريخ وبناء الأفكار والخبرات والتقديرات بناء على التخصصات المعرفية والعلمية في تفاعلها مع التجارب التاريخية؛ في حين أنه اليوم لا يملك من التجارب التاريخية والمعرفة العلاقات المنطقية الواضحة بين التاريخ والمستقبل.
ربما تكون منظومات مصالح سياسية واقتصادية محقة في مخاوفها وشعورها بالتهديد وربما الفناء، لكن التاريخ يؤكد على أن البحث عن الفرص ومجالات التكيف هو الوسيلة الوحيدة للقدرة على الاستمرار وربما النمو، في حين أن مقاومة التغيير هزيمة مؤكدة. هكذا فإننا في حاجة إلى عمليات جماعية وفردية واسعة لتشغيل مهاراتنا وقيمنا الفكرية والنفسية للمشاركة في هذا العالم المتشكل بدلاً من مقاومته أو العزلة عنه.. وهنا تصعد على نحو استثنائي أهمية الذكاء الجمعي.
يقول الفيلسوف وأستاذ الاجتماع «بيار ليفي»، والذي شغل بالتأثير الثقافي والاجتماعي للإنترنت: ثمة ظاهرة اجتماعية جديدة تتشكل لم يسبق للدين أو القانون أو الاقتصاد التقليدي أن تناولها، إنها الذكاء الجمعي الكلي الذي يتضاعف مع زيادة التفاعل وزيادة معدل إنتاج المعرفة وتداولها واستهلاكها وزيادة التفاعل بين عناصر المنظومة المجتمعية.
وبالطبع فإن الذكاء الجمعي ليس فكرة جديدة، لكنها مصاحبة للاجتماع الإنساني، ومن منجزاتها التطبيقية الواضحة والمشهورة التعاون وهيئة المحلفين والمداولات التي تجري في الاجتماعات والمجالس النيابية والبلدية والنقابية، لكن هناك حاجة لذكاء جمعي جديد قادر على إدراك أهمية أو عدم أهمية الأعمال والمؤسسات الكثيرة القائمة والمقترحة للمستقبل، وعلى سبيل المثال، فقد تشكلت المدارس والجامعات استجابة لاحتياجات مجتمعية ومؤسسية ووعي طبقي ومؤسسي مثل السلطات السياسية والمؤسسات الدينية والنقابات المهنية والطبقات القيادية في الأمم والمجتمعات، واليوم في ظل التدفق المعرفي والإمكانيات المتاحة للتعلم والتداول تحتاج الأمم أن تقوم بمراجعة استراتيجية لهذه المؤسسات وفلسفتها وجدواها ومدى الحاجة لاستمرارها وكيف تستمر، لكن لا يمكن تحقيق هذه المبادرة الكبرى إلا من خلال وعي جمعي جديد، وأما الانتظار حتى يتشكل هذا الإدراك عند عجز المؤسسات أو عدم قدرتها على الاستجابة للتحولات أو تحولها إلى عبء اقتصادي وتنظيمي يواصل النزف بلا فائدة؛ سوف يفوت على الأمم السلبية فرص التقاط اللحظة واللحاق بركب الأعمال والمعارف الجديدة.
*كاتب وباحث أردني