مع بداية السنة الميلادية الجديدة، لا مندوحة من الإقرار بأن العالم الإسلامي يشهد في الظرف الراهن أكبر تحد واجهه منذ عصور بخصوص وضعه الديني نفسه، حيث تشتد الفتنة الأهلية الداخلية التي تغذيها الجماعات الطائفية والحركات الإرهابية المتطرفة المدعومة من قوى إقليمية غير عربية صدّرت الحروب الأهلية والصراعات المدمرة إلى عالمنا العربي.
الباحث الفرنسي في الإسلاميات «أوليفييه روا» استنتج من تحليل هذا الوضع أن الإسلام دخل عملياً في نفس المسار الذي عرفته المسيحية قبل تشتت المرجعيات الدينية ومن ثم انفجارها من الداخل، بحيث يمكن القول إن البناء المؤسسي في الإسلام أصبح عاجزاً عن ضبط حركة التنوع والاختلاف في صياغاتها واتجاهاتها الجديدة، ومن هنا يأتي المأزق الذي يواجه علماء الإسلام المعتدلين في محاولاتهم الرامية إلى التصدي لأشكال التمرد الراديكالي من السلفيات الجديدة وتيارات الإسلام السياسي.
تلك حقيقة يتعين الإقرار بها في معالجة وضع المؤسسة الدينية الذي اتسم دوماً بالهشاشة والضعف في الإسلام السني على الأخص، على الرغم من الصورة السائدة في الأدبيات الاستشراقية حول الجوهر القانوني السياسي للدين الإسلامي. فكيف يمكن الجمع بين القول بهذا الطابع القانوني السياسي وملاحظة ضعف البناء المؤسسي للدين، أي خلو الإسلام من هيئة مؤسسية تتحكم في تأويله وضبط أحكامه وتطبيق تعاليمه وشرائعه؟
ما ذهب إليه العديد من الباحثين بناءً على ملاحظة قديمة للفيلسوف الألماني هيغل، هو أن العلاقة التعبدية بين الله والبشر في الإسلام لا تتحدد في أفق لاهوتي بل في أفق شرعي قانوني أساسه أوامر وواجبات تطبيقية تفصيلية، بما ينعكس في تصور الوحي نفسه الذي هو من هذا المنظور رسالة تكليفية مباشرة تحمل كلام الله الذاتي الفعلي.
والغريب أن هذا التصور الاستشراقي تم اعتماده إلى حد كبير في كتابات الإسلام السياسي الذي حوّل الشريعة إلى قانون تفصيلي، واعتبر أن هدف الدين هو إقامة الدولة المطبِّقة لهذا القانون، كما رفض الوسائط التأويلية التي وضعها المتكلمون والصوفية في ما يتصل بفهم العلاقة التعبدية.
ما تفضي إليه مقاربة الصياغة القانونية للشريعة هو استبدال النظام التأويلي في التقليد الإسلامي بنظام مؤسسي وفق نموذج «الحاكمية الدينية» أو «ولاية الفقيه». وفي الحالتين يتم النظر إلى التراث الكلامي والفقهي بصفته عائقاً أمام تقنين الشريعة وتحويلها إلى أيديولوجيا سياسية.
لم ينظر الفقهاء في التقليد الإسلامي إلى الشريعة بصفتها مدونة قانونية، بل اعتبروها، حسب عبارة «وائل حلاق»، نمطاً من رؤية العالم ومسلك حياة بقدر ما هي مدونة من الأحكام التكليفية.
ومن هنا ندرك السمتين المميزتين للشريعة بالمقارنة مع المدونة القانونية الرومانية وامتداداتها الحديثة: التعددية المذهبية التي لا يمكن اختزالها في تفريعات محسوبة رغم استراتيجيات الترجيح والتقنين التي اعتمدها أئمة المذاهب في مراحل عديدة من تطور التشريع الإسلامي، الوضع المعياري للسياقات المجتمعية من أعراف وعادات في وضع وتكييف الأحكام الشرعية حيث تعامل الفقهاء في الغالب مع النصوص من حيث هي أنساق تأويلية مفتوحة تجري ملاءمتها مع المستجدات والضرورات القائمة.
لقد كانت سلطة الفقيه من هذا المنظور رمزية، لكنها كانت فاعلة ومؤثرة، وفي غالب الأحيان نجحت في حفظ استقرار المجتمعات المسلمة وتوازنها في فترات الاضطراب والفتنة وانهيار الدولة، كما شكلت في الآن نفسه عماد المجتمع الأهلي وركيزته في فترات الاستبداد السياسي.
لقد عبّر عن هذه الحقيقة الفقيه الموريتاني «الشيخ محمد المامي الشنقيطي» في نهاية القرن الثامن عشر في مؤلَّفه «كتاب البادية»، في ما وراء الإجماع الفقهي حول وجوب نصب أمام شرعي لضبط شؤون الجماعة، مبيّناً أن أمر الشريعة يدار وفق مصالح وضرورات المجتمع بالاستناد إلى معاييره وقيمه، ومن هنا الفسحة التأويلية الواسعة والمرنة في الشريعة التي تميزها عن القوانين الحديثة.
بيد أن عاملين برزا في الحقبة الحديثة غيّرا طبيعة الوضع المؤسسي للشريعة، هما: انبثاق نموذج الدولة الوطنية المركزية، بما لها من سمة الشمولية والتعبير عن الجسم الاجتماعي في كليته، وتراجع موقع الفقيه في المجتمع الأهلي وما أفضى إليه هذا التراجع من بروز أنماط جديدة من وكلاء الحقل الديني حملوا العداء لصورة العالم التقليدي وسعوا لأدلجة وتسييس الدين.
وللتعامل مع هذه المستجدات، أصبح من الضروري إخراج الحقل الديني من تجاذبات السياسة وتحويله إلى أحد مجالات الميدان العمومي المشترك الذي هو من مسؤولية الدولة بصفتها التعبير عن الإرادة الجماعية الكلية، كما أصبح من الضروري إعادة بناء الهياكل المؤسسية للشأن الديني في الحقل الأهلي لقطع الطريق أمام الدعوات الطائفية والتنظيمات الأيديولوجية التي مزّقت النسيج الداخلي للمجتمعات المسلمة.