حين منح الناخبون البريطانيون حزب «المحافظين» بزعامة رئيس الوزراء بوريس جونسون أغلبية تمكنه من القيادة في البرلمان يوم 12 ديسمبر الماضي، أنهوا بذلك مأزقاً سياسياً محيراً بشأن مغادرة الاتحاد الأوروبي (بريكسيت)، الذي أضر باقتصاد المملكة المتحدة وسمعتها كديمقراطية مستقلة. وبعد بضعة أيام، بدأ البرلمان يضع أساساً قانونياً للخروج من التكتل بحلول 31 يناير، أي بعد عام تقريباً من الموعد النهائي الأصلي. وبذلك، في غرة فبراير 2020، تخرج المملكة المتحدة أخيراً من التكتل الذي دخلته عام 1973. لكن المهمة لم تنته بعد.
فالجدل المحتدم بشأن بريكست ليس إلا مقدمة لما قد يكون سنوات من الصراع على التجارة بين خامس أكبر اقتصاد في العالم وأكبر تكتل للتجارة الحرة. ولكلا الجانبين مصالح قوية في التوصل إلى توازن اقتصادي بعد بريكست. لكن الافتقار إلى الثقة وقوائم الأولويات السياسية المتصارعة قد يجعل المرحلة التالية من بريكست صعبة مثل سابقتها وتعرض اقتصاد البلاد لمزيد من الضرر إذا انهارت المحادثات. وتُبقي صفقة جونسون للخروج بريطانيا ضمن التكتل الأوروبي حتى نهاية 2020، وهي فترة سماح للمفاوضين لوضع قواعد جديدة للتجارة. وإذا لم يتم التوصل إلى اتفاق، ستخرج بريطانيا من التكتل وستقام الحواجز دون دخول أسواق الاتحاد الأوروبي التي يذهب إليها نصف الصادرات البريطانية تقريبا.

وحذر مسؤولون من الاتحاد الأوروبي أنه ربما يصبح من المستحيل الوصول إلى اتفاق شامل بحلول ديسمبر 2020. وصفقة الخروج تسمح بتمديد يوافق عليه الجانبان لفترة السماح لما يصل إلى عامين. واستبعد جونسون هذا. وفي يوم 18 ديسمبر، حذرت «أورسولا فون دير لين» رئيسة المفوضية الأوروبية من أنه إذا لم يتم التوصل إلى «اتفاق بحلول نهاية 2020، سنواجه موقف حافة الهاوية مرة أخرى». ويؤكد محللون أن جونسون قد يوافق على تمديد، لكن مازال «بريكست قاس» أحد الخيارات القائمة.

ويرى بعض أنصار جونسون أن التخلص من قوانين ولوائح الاتحاد الأوروبي سيطلق الرأسمالية البريطانية من عقالها. ويتوقع أن تبدأ محادثات التجارة بحلول مارس والتمديد قد يُطلب في غرة يوليو مما يمثل نقطة مبكرة وصعبة في ولاية جونسون قد تقضي على وعد حملته. وتمديد موعد المحادثات يتطلب من بريطانيا أن تواصل تقديم مدفوعات لميزانية الاتحاد الأوروبي وهو تصور غير مقبول من الحكومة. وقاد جونسون حملة بريكست عام 2016 حين زعم أن بريطانيا تدفع 350 مليون جنيه في الأسبوع أي ما يعادل 460 مليون دولار وهي أموال يمكن توجيهها إلى قطاع خدماتها الصحية. والمساهمة الفعلية الصافية تبلغ 212 مليون جنيه إسترليني، وفقاً لوكالة الإحصاء البريطانية، وهو مبلغ ربما يبدو ضئيلاً أمام التأثير التراكمي للنمو الاقتصادي الأبطأ بعد الخروج من التكتل.
ويرى أنصار جونسون أنه يمكن التوصل العام المقبل إلى اتفاق أساسي للتجارة عبر الحدود في البضائع وأنه برفض التمديد، تجبر بريطانيا الجميع على التوصل إلى أرضية مشتركة. ومثل هذا الاتفاق لن يكون ضماناً للشركات البريطانية لتوفير إمكانية دخول كاملة للأسواق الأوروبية. وستستبعد معظم الخدمات التي تعتبر أكبر مصدر إلى الاتحاد الأوروبي خاصة في الخدمات المصرفية والتأمين. والجهات المنظمة الأوروبية تؤكد أن الشركاء من غير التكتل يتعين أن يلبوا قائمة الأولويات للخدمات إذا أرادوا مزايا تجارية. وحتى إذا أبدى الاتحاد الأوروبي مرونة، فلدى الدول الأعضاء السبع والعشرين قائمة أولويات في قضايا شائكة مثل حقوق الصيد والدعم الحكومي وحماية البيانات. وأي اتفاق تجارة شامل يتعين أن يوافق عليه المشرعون في كل بلد.
وربما تكون أكثر النقاط غموضاً هي ما يريده جونسون تحديداً في الشراكة الاقتصادية مع الاتحاد الأوروبي. فقد اختلفت صفقته للخروج عن صفقة رئيسة الوزراء السابقة «تيريزا ماي» في تخفيفها التزامات بريطانيا لتعكس معايير الاتحاد الأوروبي في العمالة وحماية البيئة وقطاعات أخرى في مقابل إمكانية مميزة لدخول الأسواق. وأكد جونسون أن المملكة المتحدة تستطيع وضع القواعد الخاصة بها مع الحفاظ على مزاياها التجارية.
ووجود علاقة فضفاضة مع أوروبا، يمسح لبريطانيا بمزيد من المرونة في التفاوض مع الولايات المتحدة وشركاء تجاريين آخرين. وكان الرئيس دونالد ترامب وهو حليف سياسي لجونسون ومن مؤيدي بريكست قد أعلن أنه يريد اتفاق تجارة حرة «طموح» مع بريطانيا. لكن بعض الخبراء يرون أن أي اتفاق أميركي لن يعوض الصدع في العلاقات مع أوروبا مع الأخذ في الاعتبار الحجم النسبي للتجارة بين الحدود.
وحذر السير «إيفان روجرز» الدبلوماسي البريطاني البارز السابق في الاتحاد الأوروبي من تكرار مأزق العام الماضي إذا فشلت بريطانيا في التفكير والتصرف بشكل استراتيجي. وصرح في كلمة ألقاها في جامعة جلاسجو في اسكتلندا قبيل الانتخابات «أعتقد أن أكبر أزمة تواجه بريكست حتى الآن ما زالت تنتظرنا في نهاية عام 2020». ويرى أن فوز جونسون سيخدم المفاوضين الأوروبيين الذين يعرفون أن رئيس الوزراء سيرفض تمديد المحادثات التجارية. وأضاف أن هذا يمهد الطريق ليضع الاتحاد الأوروبي شروطه لإقامة علاقة وثيقة وإجبار جونسون على الاختيار بين صفقة تجارة لا يمكن قبولها وبين انفصال قاس قد يحطم الاقتصاد البريطاني.
*صحفي متخصص في الشؤون الأوروبية
ينشر بترتيب خاص مع خدمة «كريستيان ساينس مونيتور»