كان نصف الساعة الأولى من بداية العالم الجديد كارثة مفجعة لسكان إدلب، فحين انطلقت في سماء المدن الكبرى أضواء الألعاب النارية التي تضيء ليل البشرية وتحوله إلى بهجة من الفرح الملون، انطلقت الطائرات لتقصف إدلب وأطرافها وجسر الشغور وقراها بمئات الصواريخ التي انهالت على البيوت لتهدم وتقتل، وقد كنت على اتصال بالأهل هناك وهم يحدثونني عن الرعب الذي يسيطر على ملايين الناس الذين يستسلمون للموت، ولا يدرون أي صاروخ سيفجر بيوتهم ويقتلهم ويجعل أطفالهم النائمين أشلاء، وهم لا يملكون صداً لهذا العدوان، وقد فرض عليهم أن يستقبلوا العام الجديد بالفزع والخوف وترقب الدمار، وبرؤية الضحايا من الأهل والجيران، وهم يسارعون لإنقاذ مَن يمكن إنقاذه من تحت الأنقاض والركام. ولقد تساءلتُ عن سر هذا التوقيت، وعن حرص المعتدين على تحقيق التزامن بين أفراح البشرية في العالم كله، وبين عواصف الموت والتدمير على بسطاء الناس من سكان ونازحين وهم أكثر من ثلاثة ملايين إنسان! والمفارقة أن القصف لا يستهدف مقاتلين أو مسلحين، فهو قصف مباشر وواضح على المدنيين، وكان بالإمكان أن يتوقف ساعة البهجة الإنسانية، وألا يُحرم الطيارون الذين ينزلون الحمم على رؤوس الناس من الاحتفال مع أسرهم لاستقبال العام الجديد، لكن ربما تكون بهجتهم أكبر برؤية دماء الناس ورؤية أشلاء الأطفال تتناثر بدل رؤية النجوم الوهاجة بالأفراح، وهي تتناثر وتنشر الفرح والبهجة والسرور في نفوس البشر. والمفجع أن العالم يصمت على هذه الجرائم، وهناك من يريدها أن تمر دون أية إدانة، ويعتبرون أن ما يحدث ضروري مادام حرباً على الإرهاب، ويتجاهلون أن الضحايا مدنيون ونساء وأطفال ومرضى وعجزة.. ومن فقراء الناس الذين هُجِّروا قسراً من بيوتهم، حتى ليكاد المرء يتساءل عن حال الضمير الإنساني؛ أما يزال حياً أم مات وانتهى؟
صحيح أن دولاً كبرى أصدرت البيانات والنداءات المطالبة بوقف القصف على المدنيين في إدلب، وبينها دول في مجلس الأمن، وأن دولاً أخرى على رأسها الولايات المتحدة ودول الجامعة العربية، دعت إلى حماية المدنيين، وأن ثلاث دول «ضامنة» تعهدت ألا تحدث فواجع إنسانية، وأن يتم علاج وجود المتطرفين دون مساس بالمدنيين، وألا تتوقف الإغاثة الإنسانية لاسيما أن مئات الآلاف من النازحين والهاربين من الموت يسكنون على الأرصفة، وحول الحقول، يعانون البرد القارس، وعشرات الآلاف من أسر الأرياف المدمرة التي لجأت إلى الشريط الحدودي السوري التركي، وهي لا تجد معيناً أو نصيراً أو مغيثاً.. لكن التجاهل المتواصل لنداءاتهم أصبح مريباً ومثيراً.
ولا أنكر أن وجود «هيئة تحرير الشام» («النصرة» وحلفاؤها من الفصائل المتطرفة) هو الذريعة، لكن العالم كله تابع التظاهرات التي اكتظت بها شوارع محافظة إدلب ومدنها وقراها، وهي تهتف ضد التطرف، وتطالب برحيل المتطرفين، وتناشد الضامنين بتدخل سلمي وسعي سياسي لإنهاء مشروع الإبادة.. والجميع يعلمون أن المتطرفين غير قادرين على البقاء بضعة أيام إذا توقف عنهم الدعم الذي لا يهبط من السماء حتماً.
هل فقد العالم كلُّه الوسيلة لإيجاد حل غير مجزرة كبرى وإبادة جماعية لسكان محافظة إدلب؟ أين عباقرة السياسة؟ وأين عقلاء الكون وحكماؤه؟ أما ارتوى أعداء الإنسانية من دماء السوريين؟ لست ألوم دولة بعينها، فالعالم كله مسؤول، ولا يجوز أن يضحي بأكثر من ثلاثة ملايين إنسان من أجل حفنة إرهابيين.. وفاجعة أهل إدلب أنهم محاصرون بين المتطرفين وبين المتوعدين بالانتقام.. وكان مفجعاً فشل اتفاق حوران، ما جعل سكان إدلب يخشون تكراره.