من يسرق وقتك وجهدك ويعرقل تقدمك أو أن يتجاوزك شخص بمنصب أو ترقية وأنت تملك كفاءة مهنية تفوقه كماً وتتفوق عليه من الناحية الشخصية والقيادية هو شخص يسرق حياتك، حيث إن هناك العديد من العينات البشرية التي تستفيد وتنتفع بطريقة مباشرة أو غير مباشرة بحكم المنصب أو الصلاحيات الممنوحة لها من منظومة الفساد بجميع أنواعه وتجلياته، بكثير من دول العالم، في الحياة المهنية، وتفعل ذلك في كثير من الأحيان وفقاً لمواد القانون أو للثغرات البشرية في القوانين والتشريعات والتركيز على المخرج الكمي الذي قد يتسبب لاحقاً بأزمة للمئات بل للآلاف من غيره من الموظفين. والغريب في الأمر أن يلقى هذا الشخص المارق مؤسسياً كل الدعم داخل وخارج المؤسسة، ويضمن ألا يمسّ له طرف لكون سقوطه يعني سقوط غيره في العقد المنثور ممن كانوا يعتقدون أنه يحسن صنعاً، وقد يكونون مستغفلون وهو ليس عذراً لهم بداعي التركيز على أمور يرونها أكثر أهميةً، وتجاهل ما يصنع ذلك الشخص ومنحه الثقة الكاملة تحت مسمى (شخص شغول)، وتركه يعبث بمقدرّات مؤسسة حكومية ويحيط نفسه بأشخاص ممن هم على شاكلته.
وفي المقابل، عندما يأتي شخص مثابر ووطني وصاحب رؤية ثاقبة إلى أعلى الهرم في الكثير من مؤسسات العالم العربي يجد هذا الشخص مقاومةً كبيرة لإجراء التغيير الإيجابي اللازم وإعادة البناء لمستقبل أفضل، ويتم شيطنته والقيام بحملات للتشكيك في قدراته ومهاراته القيادية والإدارية والفنية، ويصطدم بواقع غير مثالي في تلك المؤسسات عندما يحاول السير ضد التيار الذي يسكن في منطقة الراحة، والذي لا يود المساس بأي وجه من الوجوه بالنمط المعتاد والصلاحيات وما يحصل عليه من فوائد ومميزات، ليتم من خلال هذه المنظومة وأد العقول الوطنية التي تملك ما قد يصنع الفارق لمؤسساتهم ودولهم، وإن كان من البديهي أن يكون الفساد جزءًا متأصلاً في الطبيعة البشرية في السعي وراء الكمال أو تحقيق الذات وإرضاء الغرور الشخصي والأطماع الشخصية.
ولا توجد دولة في العالم إلّا وفيها فساد وفاسدون، وذلك حسب الحجم والموارد وطبيعة المجتمع وثقافته وقيمه والمسكوت عنه، وأعتقد أن كل إنسان لديه ميول معينة من الممكن أن تصنّف كنوع مع الفساد بغض النظر عن طبيعته وحدته وتأثيره. ولا يوجد إنسان منزّه عن العيوب، أو ليس لديه ما يحتاج للتحسين ولمراجعة ذاتية صادقة مع النفس لارتباط ظاهرة الفساد في رأيي بميول وراثية لها علاقة مباشرة بالطموح والطمع والحصول على المزيد أو ما ترغب فيه النفس البشرية وتشتهيه، وهذا الصراع مع النفس لكبحها هو ما يميّز الشخص الصالح عن الفاسد.
وقد يكون عدد الفاسدين والانتهازيين أقل في مجتمع دون غيره ولكن أثرهم قد يفوق بمئات الدرجات الفساد المنتشر بين شريحة أكبر في مجتمع آخر. وفي بعض البلدان، قد يكون المجتمع في الغالب يقبل قيم الفاسد ولا يعتبرها أمراً غير أخلاقي لكونه قنّن الفساد وجعله جزءًا من القيم المقبولة المغلّفة بصفات حميدة كالكرم أو الشجاعة، وطالما هناك بشر سيكون هناك فساد ولكن هل يعني ذلك الاستسلام لتيار الفساد أم الحدّ من مخاطر موجات تسونامي الفساد!
وللحدّ من الفساد، في المجتمعات، لا بدّ من التخطيط الاستراتيجي الجماعي الذكي من أسفل السلم إلى أعلاه والمراهنة على بناء النظام المستدام وجعله مصدر التميّز والإبداع، وما الأشخاص سوى أدوات ضمن هذا النظام ولا يتحكمون في نجاحه أو فشله، وإلّا وصلنا لنقطة الغباء الإستراتيجي، إلى جانب الإرادة السياسية التي يجب أن تضرب بيد من حديد على ممارسات الفساد وألا تستثني أحداً من ذلك، وخاصةً على العناصر التي تراهن على ذكائها بإيجاد منفذ بين الثغرات التنظيمية والقانونية وتمارس فساداً مستتراً يمنع الناس من الاستفادة الكاملة من قدراتهم أو التوظيف الصحيح للموارد البشرية، وإجبار الحكومات على أن تهدر أموالاً على تكاليف التجاوزات التي ارتكبتها فئة بعينها حيث يشوه الفساد أيضاً أولويات الحكومة وفعالية الإنفاق التطويري للاستثمارات المستقبلية، ولذلك فالفاسد ليس شخصاً مخطئاً بحق مؤسسته فقط بلّ بحق مجتمع بأكمله.
وهنا يأتي دور أهمية المستوى العالي من الشفافية والتدقيق الخارجي والداخلي على المؤسسات الوطنية وتوفير رقابة فعّالة ذاتية قبل كل شيء، وتوفير منصة إلكترونية تتيح للموظفين رصد المخالفات والتجاوزات دون الخوف من استهدافهم وتمكين دوائر الفساد منهم وجعلهم هدفاً لها، حيث تكون فرص النجاح والتميّز أكبر عندما تصمم البلدان إصلاحات للتصدي للفساد من جميع الزوايا ووضع نظام شامل لحماية المواهب البشرية والمبدعين من طاعون الفساد.
*كاتب وباحث إماراتي في شؤون التعايش السلمي وحوار الثقافات.