كان القرن العشرون قرن الثورات في كل الاتجاهات كوريث للثورة الفرنسية، فكلمة الثورة كأنها تعممت على كل ظاهرة من الثورة البلشفية إلى الثورة الثقافية الماوية وقبلها التروتسكية، فإلى الانقلابات العسكرية في العالم الثالث التي سميت أيضاً ثورات، وطاولت هذه الظاهرة حتى الشعر، الثورة الدادائية والسوريالية، وفي المسرح، نجد المسرح الملحمي، و«مسرح القسوة» مع أنطونان أرطو، فإلى ثورة «المسرح الفقير» مع غروتوفسكي، من دون أن ننسى تعاقب الثورات السينمائية في أميركا وأوروبا.
إذا إنه قرن الثورات، قرن الإنسان الجديد، وكل شيء جديد وبديل: التقدم بلا رجعة إلى الوراء! التجاوز المستمر، أي فلسفة الصيرورة، إيمان بالتقدم وبحركة التاريخ الواحدة تتحول ما يشبه الأيديولوجية الدينية، بمعنى آخر كانت ثورات القرن العشرين مشروعاً اجتماعياً وسياسياً وأدبياً شاملاً: خلقُ مجتمع جديد وطريقة تعبير جديدة، وحتى أسلوب حياة جديدة، أي أيديولوجيا متكاملة، تحدد شروط البنى الاقتصادية والسياسية والثقافية، ضمن هرمية تراتبية في أشكال الريادات والحكم، ومثال الخميني واضح: إسقاط النظام الامبراطوري الليبرالي الغربي، وإحلال نظام مذهبي.
والثورة مشروع لا ينحصر دائماً بالحدود المحلية، بل يشمل توسعاً إلى الخارج بلا تخوم أو جغرافياً أو ديموغرافياً، كل ثورة جذرية لا تكتفي بذاتها أو بنظامها، بل تحاول أن تصدره إلى العالم كله: الأممية الشيوعية مقابل الأممية الشيعية، مقابل الأممية المعولمة ثم الصناعية أو التواصلية: كلها ظواهر تأثرت بتقدم الفكر والتقنيات والتكنولوجيات.
ولأن عمر الثورات قصير مهما طال، فقد دفنت معظم هذه الثورات في القرن ذاته التي تفجرت فيه، وكبراها الشيوعية (سقوط جدار برلين)، والمنظومة الاشتراكية، وبدأ التبشير بنهاية التاريخ مع فوكوياما، أي انتصار الليبرالية القطبية الواحدة المجسدة بأميركا.
لكن القرن الحادي والعشرين كأنه بدا من شعارات وتسميات أخرى: تجديد أو تغيير في صوغ الثورة، لكن المتابع لتلك التحركات التي تكاد تعم العالم اليوم يكتشف أنها لا تزعم أو توحي بأنها ثورات على غرار الماضي: فمن ثورة أوكرانيا إلى ثورة الأرز 2005، فإلى إيران عام 2009، فإلى ما انفجر عام 2017 ثم 2019، فإلى انتفاضة الشباب العراقي، وكذلك توترات تشيلي، و«السترات الصفر» في فرنسا، فإلى ما يتحرك اليوم في لبنان، نظن أن كل هذه التحركات أقل من ثورة وأكثر من حراك واحتجاج، أقل من شمولية، وأكثر من تموضعية: اختلطت في معظمها مطالب وطنية (إخراج الوصايات والتحرر من الاحتلالات، ومواجهة القمع، والمطالبة بشروط اقتصادية تساعد الناس على العيش).
هل هي موجات يمكن تسميتها ثورات؟ منها ما قد يلامس جزئياً هذه المرتبة، التفجر الشعبي في لبنان اليوم ثوري من ناحية انقلابه على المذهبية، وإصلاحي بمطالبه المحددة، وكذلك العراق وطني اجتماعي إصلاحي.
تحديد الثورة في قاموس «لاروس»، يقول: «تغيير مفاجئ وعنيف في البيئة السياسية والاجتماعية في دولة، يحدث عندما تثور مجموعة على السلطات القائمة، وتتسلم السلطة وتنجح في الحفاظ عليها»، لكن الثورة في المفهوم الشيوعي، كما سبق أن قلنا، هي ولادة عالم جديد، والتحرر من استغلال الإنسان للإنسان أي ثورة عالمية.
صحيح أن طموحات القرن العشرين كانت شاملة وشمولية، وترمز إلى تغيير العالم وتوحيده وراء أيديولوجيا... لكن ما يجري اليوم في العالم، لا سيما العربي، أقرب من الانتفاضة منه إلى الثورة، ليس بالمفهوم الموضوعي فقط، بل بالحدود التوحيدية، فالثورة مشروع متكامل، والانتفاضة غضب متفجر، ومن الصعب توحيد مسارات الغضب، ولهذا نرى أن الانتفاضات العالمية اليوم مبعثرة ومنفصلة وغير متواصلة إلا بالظروف والمصادفات والعدوى، إنها انتفاضات لا ثورات.

*كاتب لبناني