بالتزامن مع عيد الميلاد المجيد، وعلى مشارف العام الميلادي الجديد، اعتدنا مع أخوتنا في الإنسانية المسيحيين على خطابين وأسلوبين في التفاعل مع هذه المناسبة، كما يحدث كل عام: خطاب التسامح القائم على المشاركة في الحدث باستقبال السنة الجديدة، وتبادل التهاني بأسلوب حضاري، مقابل خطاب التزمت والعنصرية والكراهية، وكل المفردات التي يروج لها القادمون من كهوف التطرف والجهل والانغلاق.
ومن المحزن والمخجل، أن يتم فتح هذا الملف في ذيل كل عام، نتيجة لما يبثّه المتطرفون من فتاوى متشددة، وإذا كان التشدد والتطرف العنصري ضد أتباع العقائد الأخرى من صفات ذوي الميول الإرهابية في مجتمعاتنا، فذلك أمر لم يعد مستغرباً بل أصبح متوقعاً، لأن هذه الفئة اعتادت على التكفير واصطفاء الذات، وإذا لم يجد أتباعها من يكفّرونه، فإنهم يتبادلون التكفير فيما بينهم، لكن من الغريب جداً أن يتشدد بعض المحسوبين على الحداثة والحياة العصرية، وتجدهم ينتقدون مشاركة المسلمين في الاحتفال باستقبال رأس السنة الميلادية، رغم أن الزمن الحاضر يصبغ المناسبات بمسحة اجتماعية تجعلها مشتركة بين جميع البشر، فالمناسبات التي كانت دلالاتها الدينية في الماضي أكثر طغياناً، اكتسبت مع الزمن أبعاداً اجتماعية، مما جعلها تتخفف من الطقوس وتندرج ضمن العادات.. فهل يفهم المتطرفون مثل هذه التحولات؟
وممن التحقوا مؤخراً بركب التكفير والعنصرية المقيتة، مسؤول عربي كبير (بدرجة رئيس دولة)، خرج علينا بتغريدة غير متوقعة وغير لائقة حضارياً بالإنسان العربي، وبمن يتبوأ منصباً بحجم منصبه، وتحجج في موقفه الرافض بشدة للاحتفال برأس السنة الميلادية، بأن الآخرين لا يحتفلون بمناسباتنا، هذا رغم أن ثقافة التعايش والعولمة الثقافية أصبحت تسود الكوكب، وأن الغرب يتعايش مع المناسبات الإسلامية المتعددة، التي انتقلت إلى مدن وعواصم أوروبا، من خلال الأعداد الكبيرة للمهاجرين والمقيمين واللاجئين العرب والمسلمين، الذين نقلوا طقوس رمضان والأعياد الإسلامية والمطاعم الشرقية إلى المجتمع الغربي، ولا أحد يمنعهم من ممارسة الشعائر التي تميزهم، بل على العكس من ذلك، تشير بعض التقارير الإعلامية إلى اعتياد بعض الأوربيين على المطبخ العربي، وإلى أنهم أصبحوا زبائن دائمين للطعام الذي ينتمي إلى ثقافة ونكهة أخرى.
والحقيقة أنه يمكن النظر إلى المسألة ببساطة من مدخلين؛ أولهما يضع أعياد الميلاد كما هي في المجتمع الغربي نفسه، كمجرد مناسبة لا تخلو من ازدهار الحركة التجارية، في ظل إجازة وطقس اجتماعي بالدرجة الأولى، أما المدخل الثاني والذي يهمنا التأكيد عليه، فهو صعوبة استيعاب البعض لقيم التسامح، والأخطر أن يروج لهذا الانغلاق شخص ذو موقع كبير، ومن المفترض أن منصبه يفرض عليه أن يكون ممثلاً لجميع أصحاب المعتقدات في بلده.
نحن لا نتحدث عن رجل دين متشدد، لا تزال الكتب الصفراء والفتاوى القديمة توجه تفكيره ورؤيته للأحدث، بل عن مسؤول كبير، يضع نفسه في موقف حرج، عندما يسخر من المسلمين، ويعتبر مشاركتهم في استقبال رأس السنة انهزاماً حضارياً!
هذا التفكير الضيق يكشف أن مفهوم الرجل للقوة الحضارية منقوص، لأن الحضارة تتكون بتراكم الفكر المنفتح والريادة الاقتصادية والتسامح والتعايش والمقدرة على صناعة لغة مشتركة مع الآخر، أما الانغلاق والتقوقع فلا يصنعان الحضارة ولا يبنيان الأوطان والأمم، وعندما يغرد شخص بكلام شبيه لما يروج له المتطرفون، فهذا يدق ناقوس الخطر في مجتمعه، فهو يثبت أنه لن يقبل الاختلاف الديني في بيئته، وماذا عسانا ننتظر من أنصار التشدد، وقد أصبح البعض يروج لمنطق العنصرية والكراهية من موقعه الرسمي؟
إن ذلك يجعلنا مرة أخرى، ننظر إلى الجهود التي تم بذلها في دولة الإمارات، في اتجاه تعزيز ونشر قيم التسامح، كمبادرة رائدة في المنطقة العربية، كما تدفعنا بعض التغريدات إلى إعادة تعريف مَن هو المتطرف، فقديماً كان المتطرف رجل دين أو متأسلماً، التحق بأحد التنظيمات، أما الآن فقد يكون المتطرف متخفياً وراء بذلة عصرية وشهادة أكاديمية ومنصب رفيع، لكنه يتماهى مع ثقافة التطرف ويروج لها، أو ربما يغازل قاعدة اجتماعية حزبية، تريده أن يظهر بصورة رسمتها له سلفاً!
وعلى مشارف نهاية عام التسامح في الإمارات، يجب التأكيد على أن هذه القيمة الحضارية سوف تثمر، لأن التأسيس أعطاها حقها من الرعاية، وكل عام وأنتم بخير.

*كاتب إماراتي